أمى نشات فى قريتها لكنها لم تكن قروية ساذجة فلقد تعلمت القراءة والكتابة وتلاوة القرآن ووصلت الى الإبتدائى لكن ككل فتيات القرية مكثت فى المنزل بعد البلوغ فى انتظار العدل. لم يكن لديها يوم أن تزوجت أبى شهادة ميلاد وتم تسنينها لدى حكيم القرية على أنها من مواليد 1925 وكما كتب أبى فى مذكراته أنهما تزوجا فى 3 أغسطس عام 1939 . أى أن أمى كان عمرها 14 عاما فقط وكان أبى فى ال21 من عمره . وكان مرتب أبى 3 جنيها ت فى الشهر وكان بالطبع مبلغا عظيما فى هذا الوقت حيث كان ايجار الشقة 60 فرشا فى الشهر . فكيف لتلك الطفلة ذات الربعة عشر عاما أن تحمل مسئولية زواج وتنشأة أسرة بعيدا عن أهلها ودون خبرة أو مشورة؟ بعد الزواج بشهور وكانت أمى حامل فى أكبر اخوتى منير ، حضر جد أبى (خليل) ليطلب من أبى طلاق أمى فقد اختلف مع ابن عمه والد أمى ويريد أن يكيد له بطلاق ابنته من أبى. وعرض عليه الزواج من أخرى لكن أبى رفض وسافر جد أبى غاضبا منه ، وفى الوقت ذاته جاء والد أمى (ابراهيم) وعرض على أمى أن تطلب الطلاق من أبى ورفضت هى الأخرى وكتب أبى " رفضنا أن ندمر حياتنا الزوجية لسبب تافه ليس لنا ذنبا فيه وأثبتنا أن ما بيننا هو الحب والإخلاص والتفاهم".
تحكى أمى أن تكاليف زواجها لم تتعد 100 جنيه وكانت شبكتها ب30 جنيها من الذهب عيار 21. كان الجنيه الذهبى يباع فى هذا الوقت ب 97 قرشا. وان جهازها كان سرير نحاس ودولاب وأدوات مطبخ لم تجهزبمثله من قبل أى فتاة فى أسرتها, كانت أمى سعيدة باختيار أبى له فلقد كان وسيما وأفندى وكانت سعيدة أيضا بأنها سوف تعيش فى البندر. أمى كانت تتميز بين اخوتها جميعا بأنها الوحيدة المتعلمة والتى تقرأ وتكتب فلم تعمل فى الحقل مثل أخوتها وأضيف الى تميزها نزوحها للقاهرة للزواج من أبى والحياة فى العاصمة. أمى كانت شديدة الذكاء بفطرتها لم تدخر جهدا فى التعلم بنفسها وكانت تقرأ المجلات والجرائد وتثقف نفسها وكانت هاوية لقراءة باب المشكلات للتعرف على حقيقة الحياة من خلال مشاكل الآخرين. ربما لهذا صارت أمى عميدة لعائلتها وحلالة المشكلات والعقد.كتب أبى عن أمى انها بعد العيش فى القاهرة "صارت متمدينة تعرف كل شىء ترتب بيتها ترتيبا جميلا واشترت ماكينة خياطة وتعلمت بنفسها كيف تصنع لنا ملابسنا بل و للجيران أيضا وتخدم الجميع دون أجر ، فجزائها عند الله" .
وصحيح ان أمى صارت من أهل المدينة الا أنها كانت تحن كثيرا لمسقط رأسها وتنتهز المناسبات وأحيانا تختلقها لزيارة أهلها هناك فى البلدة تظل أمى قبل كل زيارة تشترى الهدايا لعائلتها وهى فى الحقيقة أشياء ليست غالية لكنها تبدو ذات قيمة حين ترى الفرحة على وجه من يتلقاها. لأخواتها الأقمشة السوداء لصنع الجلاليب ولبنات العائلة الأقمشة الملونة لإعداد الجهاز حين يخطبن والملابس الداخلية لأخوتها الذكور هذا ناهيك عن الزيت والسكر والشاى والصابون للجميع. أمى حين تصل للقرية تخلع ردائها وترتدى الزى الفلاحى والطرحة وتتكلم بلهجة أهل القرية حتى لا يتهمونها بالتعالى عليهم وبأنها صارت (بندرية). لكننى كنت أحس أنها كالسمكة العائدة الى مياهها التى اعتادت عليها. وما يشدها الى هناك هو حنينها الدائم الى ما تربت واعتادت عليه. كنا نصحب أمى أحيانا فى زياراتها وكانت تنتقى واحد أو اثنين ليصحبانها فى كل زيارة. كنا نفرح بتلك الزيارات فهم يستقبلون أمى بكل الحفاوة فتنحر لها الذبائح من بط، ووز ،وحمام ويخبز لنا خصيصا العيش والفطير المشلتت . تجلس أمى بكل فخر أمام الفرن تصنع كل شىء بيديها لتثبت لهم انها ما زالت الريفية والتى تتمتع بكل المهارات ولم تفقدها لمجرد أنها تسكن المدينة. يتكالب على المنزل كل الأقارب وجيران جدى للترحيب والحفاوة بأمى, تستقبلهم أمى بكل الترحاب وتسأل عن صغارهم وكبارهم وأتعجب لذاكرتها القوية فى حفظ السماء والعائلات. وحين يحين موعد عودتنا تبدأ أمى فى شراء مخزوننا من البطاطس والبصل والدقيق والحبوب ومحاصيل الفصل فتعود محملة لمنزلنا بالمؤونة وللجيران بالهدايا من الزبد والجبن والعيش والفطير. أمى لشدة حبها لأهلها زوجت أخى وأختى لاولاد أختها.
كان أبى يحب العائلة الكبيرة ويتفاخر بالإنجاب فقضت أمى حياتها منذ زواجها وحتى زواج أخى وأختى تحمل وتلد بمعدل طفل كل سنة و9 أشهر أو سنتان على أكثر تقدير. ماتت طفلتها رجاء وهى البنت بين منير ومديحة وعمرها عام و3 أشهر وظلت أمى تذكرها كثيرا فى أحاديثها لنا. صحيح أن آخر ابنائها هو محمد وولد عام 1958 الا ان أمى ظلت تحاول منع الحمل بعدها أحيانا تنجح وأحيانا تفشل وأذكر أن آخر عملية اسقاط لها كانت قبل فرح أخوتى فى عام 1964. كانت تذهب دون أن تقول لأبى فأبى كان يريد فريقا للكرة أماهى فلقد ساءت صحتها من كثرة الإنجاب ففى نفس العام الذى أنجبت فيه منيرة مثلا، سقطت أسنانها جميعا واضطرت للإستعانة بطقم كامل للأسنان وهى فى منتصف الثلاثينات. كذلك أجرت عملية المرارة بعد ولادة منيرة مباشرة. كانت أمى تحبنا جميعا فهى مع الصغير حتى يفطم وهى مع المريض حتى يشفى وقلبها مع الغائب حتى يعود أما قرة عينها كان أخى الأكبر منير فكل فخرها واعتزازها به ويظهر هذا حين يناديها الناس بأم منير.
يحكى أبى فى مذكراته أنه حين أتى موعد ميلاد مديحة سافرت أمى لتضع مولودها الثالث فى البلدة وطالت غيبتها عن أبى وأصبح وحيدا وشاءت الظروف أن يزوره يوميا اصدقاءه وحكى له صديقه زكى رزق الله أن صديقا لهم سيتزوج ب 10 جنيهات فقط فطلب منه أبى أن يكون وسيطه فى مثل هذه الزيجة الرخيصة التكاليف وكان أبى يكسب أكثر من 30 جنيها فى الشهر فكلم صديقه أهل العروس الذين رحبوا بأبى وسافر أبى فى العيد الكبير ليرى مولودته الجديدة على أن يعود بعد العيد لرؤية العروس ولإتمام الزفاف بعد العيد. لكنه بعد أن رأى طفلته الجديدية مديحة وأثناء عودته فى الأتوبيس للقاهرة فكر فى ابنته الجديدة وقال لنفسه لماذا أتزوج؟ أنا أرغب فى عروس وقد أعطانى ربى عروسا جديدة هى الأولى بالرعاية كان ذلك فى عام 1944 وانتهت القصة دون أن تعلم أمى عنها أى شىء.
أمى السيدة هانم أو (أم منير) أصبحت (ليدى) ترتدى الملابس الأفرنجية قالفستان طوله ميدى وبنصف كم وتسريحة الشعر موديل ليلى مراد والحذاء بكعب آخر موديل ومعه شنطة من نفس اللون. حين تنزل للشارع يظنها الناس خواجاية لأناقتها وكان الناس دائما ما يسألونها ان كانت من أصل تركى أو شامى . حافظت أمى دوماعلى وزنها فلا أذكرها زائدة الوزن ابدا . طولها متوسط ومشيتها فيها الكثير من الهدوء والدلال. كانت جميلة جمالا طبيعيا دون ماكياج ولا تستعمل سوى الكحل والعطر. وجهها بيضاويا وبياضها شاهق لم يرثه أحد منا لكنه ظهر مع الحفيدات نهلة وعبير ونجلاء. شعرأمى أسود ومجعد قليلا تغطيه أحيانا ببيشه أو ايشارب صغير لكنها لم تتحجب الا بعد الأربعين فى حين كانت دائما محتشمة وأنيقة فى بساطة ودون تكلف. عيونها سوداء وصغيرة. ضحكة أمى عالية لكنها نادرة فبكائها كان كثيرا وقريبا. كنا نحبها ونطيعها ونخاف من غضيها أكثر من أبى. فهى عصبية تغضب سريعا لكنها تصفو بنفس السرعة. تقرا لنا فنجان القهوة لتبشرنا بنجاح باهر أو علاوة قادمة ونتظاهر أننا نصدقها حتى لا نكذب فنجانها الذى لا ينزل الأرض أبدا. وعلى الرغم أنها كانت تدعنى فى صغرى أتناول رشفات قليلة من القهوة من فنجانها الا اننى لم أداوم على شربها أو أحببتها بعد أن كبرت.
أمى هى وزيرة المالية لبيتنا وللجيران ولأهلها فهى تدبر كل شىء قبل موعده . أمى تنظم الجمعيات لدخول المدارس ولتدبير مصاريف الزواج والولادات واشتهرت بذلك أيضا بين الجيران. الكل يلجأ لأمى ويثق أنها سوف تنجح بمشيئة الله وعونه فى تدبير ما يقصدونها من أجله. على العكس من أبى كانت أمى اجتماعية وتشارك من حولها فتجدها فى الأعراس تزغرد وتغنى وأحيانا ترقص. وفى المآتم تؤدى الواجب وتصحب أبى رغما عنه. منها تعلمنا أن المواساة فى الأحزان أهم من المشاركة فى الأفراح. منها تعلمنا المجاملات فلم تزر أمى أحد دون أن تحمل معها هدية أو زيارة أو حتى فاكهة أو حلوى.
وكان أبى يذكر لها بالخير موقفها وشهامتها معه فى احدى أزماته المادية ولا ينسى لها أبدا أنها أعطته كل ممتلكاتها الذهبية حين أراد التوسع فى تجارته لكى يزيد من دخله وحتى يقدر على مصروفاتنا المتزايدة بتزايد أفرادالأسرة. لا أذكر أى جدال لأبى وأمى الا الجدال على مصروف المنزل تشكو أمى أن الحياة أصبحت غالية وتطلب من أبى زيادة المصروف وأبى يمهلها ويراهن على شطارتها فى تدبير المور بما يعطيه لها ويعدها بالزيادة حين يفرجها الله عليه. لآ أذكر ان أمى ذهبت غاضبة عند أهلها أبدا وحين تغضب لا يمتد غضبها أكثر من أيام وكنا نعرف فقط حين تطلب منا أن نعد له نحن البنات الطعام أو كوب الليمون بعد العصر بحجة أنها تعبانة أونائمة. وللحق كان أبى فخورا بها وبكفاحها وجهدها ونجاحها فى أن تتحول من فتاة ريفية الى سيدة من المدينة بمفردها ودون معاونة من أحد.
أمى لها من المعارف الكثيرين لكن صديقاتها ثلاثة فقط أم ربيع (ابلة بنات) وأم سعيد (أبلة نعيمة) وأم تريزة (أبلة فايزة). تذهب أمى الي كل واحدة يوما فى الأسبوع وساعدها على هذا وجود شغالة (وأحيانا شغالة ومساعدة صغيرة لها) فى المنزل تستطيع أن تقوم بالمهام المطلوبة حتى تعود أمى من زياراتها. كانت أمى تصحبنى أنا أو منى أو نحن الاثنتين معها لنلعب مع أولاد صديقاتها ولكن بعد أن تطعمنا حتى لا نحرجها بطلب الطعام حين نجوع أثناء الزيارة. لم تكن تأخذ منيرة سوى نادرا لأنها كانت كثيرة الشكى والتذمر من المشى الطويل. فقد كنا نذهب سيرا على الأقدام لمسافة ليست بالقليلة كان المشوار يطول لمدة نصف ساعة أو أكثر وأحيانا نركب الترام محطتين ، لكننا كنا نحب تلك النزهات مع أمى رغم تعبنا من السير. والحقيقة أن أمى كانت مضيافة وكريمة واجتماعية لا تفوتها مناسبة دون أن تقوم بالواجب. حين تزورنا صديقات أمى أو الجارات ندخل لنسلم وحين تنظر لنا أمى نظرة معينة نفهم أن علينا مغادرة الصالون فلا يصح أن نستمع لكلام الكبار أو نشارك فيه.
كانت امى تحب الخروج وتذهب بنا فى الأجازات الى الحدائق حيث يزاول أبى هوايته فى التصوير ويضعنا بجوار بعض فى طابور: الأكبر فالأصغر، ويأخذ فى التقاط الصور لنا، بينما أمى تمدنا بالطعام من سندوتشات وحلوى تعدها قبلها بيوم لهذه الفسحة. كانت أمى تحب التسوق وتشترى لنا ما يلزمنا وتفاجئنا حين تعود من السوق بما اشترته لنا. كان أبى يتهمها دائما بالتبذير لكنها أبدا لم تكن مبذرة بل كانت مدبرة تعرف من أين تشترى أشياء جميلة وبأسعار معقولة. تجلس أمى بالساعات خلف ماكينة الخياطة تحيك لنا ثيابنا خاصة قبل العيد نسهر حتى الصباح معها تقص لها مديحة الفساتين وتركب لنا محاسن الزراير أو السوست وتقوم كل واحدة بكى فستانها بعد أن تنتهى أمى من حياكته. نقضى الوقت فى سعادة قبل أن تدركنا الهموم.
كان منزلنا على الرغم من ازدحامه بأهله أساسا الا أنه كان فيه دائما متسعا للضيوف والأهل. كل من يأتى لمهمة فى القاهرة من قريب أو بعيد كان يجد مكانا للمبيت فى منزلنا. أقام عندنا أولاد خالاتى للدراسة وأيام الجيش وكذلك أبناء عمتى. كان نقل مرتبة للصالون من طقوسنا شبه الأسبوعية لتوفير مكانا للضيوف والمبيت. ثم بعد ذلك صار وجود سرير اضافى بحجرة السفرة مكانا ثابتا للإستضافة الأطول. أمى كانت شديدة البر والإهتمام بأهلها حتى أننا كنا نغار أحيانا ونضيق بهذا خاصة حين تأخذ ما اشترته لنا لتعطيه لأولاد العائلة على وعد منها أن تأتينا بغيره حين لا يسعفها الوقت لشراء هدية حين يفاجئونا بالزيارة. ففى عرف أمى لابد أن يخرج الضيف من منزلنا محملا بشىءما حتى ولو كان بسيطا.
أمى كانت طباخة ماهرة ومذاق أكلها لا يعلو عليه وللأسف لم أتعلم منها الطهى فلقد كنت أفضل فى أجازة الصيف القيام بالتنظيف . كان المطبخ من نصيب منى أما منيرة فعليها احضار الطلبات من السوق. لا أدرى كيف كانت أمى تقوم بعمل المحشى لغدوة واحدة فى تلك الحلة الكبيرة (حلة تسسيح السمن) والتى تكفى لعدد 2 من الكرنب؟ أو تصنع أكثر من 3 أصناف من الخضار حتى يتسنى لها أن ترضى جميع الأذواق؟ ربما ساعدها وجود شغالة بالمنزل أو معاونة صديقاتها حين يأتون لرد الزيارة. فالزيارت الصباحية كانت تشمل أيضا المعاونة فى تحضير أصناف الطعام والمربات والمخللات والمعجنات وليست فقط لشرب القهوة والتسلية .
صوت أمى كان جميلا وكانت تحب الغناء الريفى وكانت بارعة فيه تزاوله فى أفراح البلدة بل وتمسك بيدها الإيقاع على الطبلة وفى أوقات صفائها فى المنزل كان يتهدج صوتها حين تغنى يا رايحين للنبى الغالى لليلى مراد. وقد أكرمها الله بالحج مع أبى مرة وبمفردها قبل وفاة محاسن مباشرة مرة أخرى. أمى كانت تعلم جيدا ان ابنتها فى أيامها الأخيرة، وما ذهبت للحج وتركتها الا لظنها بأن دعوتها لله هناك قد تشفيها رغم علمها بخطورة المرض. كانت أمى تبكى وتبكى كل من جاورها فى المسجد الحرام حين ترفع صوتها بالدعاء لمحاسن وتطلب منهم أن يؤمنوا على دعواتها . وكان الله رحيما بهاوأطال فى عمر ابنتها حتى تعود من الحج وتراها. الغريبة ان فى هذه المرة تقبلت أمى وفاة الإبنة الثانية بالكثير من الهدوء والصبر ولم تصرخ وتنوح كما فعلت فى المرة الأولى رغم انها جاءت بعد وفاة أبى بعامين. كأن الحج قد أثلج صدر أمى وجعلها تتقبل قدر الله هذه المرة قبولا افضل، أو كأنها رأت ان التلاقى سيكون قريبا فلم تجزع بل صبرت واحتسبت على أمل اللقاء الوشيك.
منيرة وأنا أقرب البنات شبها بها وورثنا عنها الكثير من الطباع وكذلك الأمراض . فى طفولتى لا أذكر أمى كثيرا فامى كانت تحمل وتلد وتعهد بتربية الصغار للكبار من الفتيات ولذا أذكر أن أختى مديحة والشغالة فايزة كانا يتوليان رعايتى فى طفولتى وحتى ذهابى للحضانة وحين أصبحت فى ابتدائى أتى على الدور أنا ايضا فى أن أعتنى بأختى (منى) عندما التحقت بالحضانة فى نفس مدرستى. فكان على أن أمسك يدها وأصحبها الى المدرسة يوميا وأن أكون مسؤولة عنها . فى سن المراهقة كنت أحاول التقرب من أمى فالتصق بها فى المطبخبعد عودتى من المدرسة أحكى لها كل ما حدث خلال اليوم لأنال اهتمامها فيكون من نصيبى الرشق بالمعلقة او الفوطة فلقد شغلتها بالحديث عن مراقبة الطعام فكان قريبا من الإحتراق أو طرطش الزيت على يدها وهى تطش البطاطس بسبب ملاحقتى لها كظلها فى المطبخ. بعد المدرسة الثانوية ومع تواجدى بالمعهد صباحا و الجامعة الأمريكية أو تدريبات الكورال بعد الظهر وأحيانا الحفلات فى المساء، كنت أعود مهدودة للنوم و ابتعدت كثيرا عنها وخاصة حين بدأت فى العمل فى شهور الصيف ايضا. ويحز فى نفسى كثيرا اننى كنت مرتبطة أكثر بأبى ولم أعبر لأمى عن حبى لها كما يجب، اللهم الا فى عيد الأم كنا نحرص جميعا حقا على الإلتفاف حولها وجلب ما يسعدها من هدايا.
. رأيت أمى باكية من أجلى يوم زفافى ظلت تتابعنى بعيونها الباكية من الشرفة كأنها ترى مستقبل زيجتى المحتوم. ومن أجلها لم أطلب الطلاق رغم ثقتى بفشل زواجى الأول الا بعد وفاتها حتى لا أزيد على همومها هما جديدا. بعد زواجى ورحيلى عن المنزل كنت أتصل يوميا بأبى فى عمله أكثر من اتصالى بأمى فى المنزل ولكنى كنت أزورهم مرة فى الأسبوع. و بعدعودتى للسكنى معها فى نفس العمارة تقاربنا كثيرا خاصة بعد وفاة أبى، كنت أحاول التسرية عنها وقضاء بعض الوقت و أساعدها فى المنزل يوم اجازتى و حين لا يكون لديها من يساعدها. وكانت تعاوننى فى الخفاء بأن تعد لى بعض الأطعمة وتبقيها ساخنة ثم فى هدوء ترسلها لى من بلكونة المطبخ عن طريق السبت دون أن يشعر بنا أحد وحتى لا يرغمنى زوجى فى هذا الوقت على ترك العملبحجة أن الأكل بايت أو بارد. كانت تحثنى على التمسك بعملى ففى نظرها كان سلاحى بعد وفاة أبى وكانت تحاول التخفيف عنى لأنه لم يكن لدى أطفال بقولها: " اللى ما يغليه جلده ما يغليه ولده" فى اشارة الى أن انجاب الأطفال ليس هو الحل لمشاكلى العائلية .
بعد وفاة مديحة ظلت أمى لا تصنع لنا الحلوى فى المنزل حتى فى رمضان. وارتدت أمى اللون الأسود طويلا منذ عام 68 أو 69 ولم تغيره الا فى يوم زواجى وبعد الحاح منا جميعا لبست لونا بذنجانى غامق يميل للأسود ثم رجعت ثانية للأسود لترتديه حتى وفاتها. كانت أمى تجلس وحيدة فى المنزل فى الصباح تقرأ القرآن أو تستمع له وتبكى أحبائها الراحلون فلقد بدأ انكسار أمى بعد وفاة مديحة فهى بكريتها وصديقتها المقربة وتركت فى نفس أمى جرحا لم يندمل بل تجدد بوفاة أبى عام 77 رفيقها فى مشوار الحياة ثم وفاة والدها دون أن تراه ثم رؤيتها لإبنتها محاسن وهى تقاسى المرض لأكثر من عام حتى رحمها الله عام 79. وذهبت أمى لأحبائها بعد محاسن ب 6 أشهر تقريبا بعد اجراءها لعملية الفتاق فى 16 سبتمبر79 كما تنبأت وكما دعت لربها أن يلحقها بأحباءها فبم تعد الحياة تعنى لها شيئا بعدهم. وكما اختبرها الله بتربية الأطفال (أحفادها من بناتها) أكرمها فى وفاتها فدفن معها فى نفس الوقت طفلا حديث الولادة كى يكون شفيعا لها وأنيسا فى رحلتها الأخيرة.
هذا ما تبادر لذاكرتى عن أمى . رحمك الله يا أمى على قدر صبرك وصمودك بجوار أبى لتربيتنا، وعلى وقوفك بجوار كل محتاج ، وعلى نصرتك لكل مظلوم، وعلى احتسابك لأحبابك وفلزات أكبادك. وعلى تربيتك لليتامى من أحفادك .وسامحينا ان كنا قصرنا فى حقك فلم نكن نعرف أن الفراق سيأتى سريعا هكذا لتذهبى وانت فى ال 54 من عمرك. أعلم أن الكثير من اخوتى وأنا أحدهم قد قام بالعمرة خصيصا من أجلك ووهب لك ثوابها (منير ومختار ومنيرة ومنى وأنا وأظن مجدى أيضا) واتمنى أن يتقبلها الله منا ويضعها فى ميزان حسناتك الملىء ان شاء الله.