الثلاثاء، 12 يونيو 2012

ذكريات الطفولة البعيدة



هل تقدر طفلة فى الثالثة أو الرابعةعلى تذكر أحداث سنواتها الأولى؟  لا أدرى ما صحة ذلك علميا ولكنى أذكر طفولتى فى ومضات تترائى لى كالحلم بين الغمام،  أذكر المنزل الذى ولدت فيه ، كان مبنى صغير من الحجريتكون من دورين ملحق بحديقة العمارة الأصلي ةوكنا نسكن الطابق الثانى فيه والأخير.  المبنى يعود للأربعينيات.  مجرد غرفتين للنوم وصالة بالإضافة الى الحمام والمطبخ.  أهم ما يميز المطبخ اتساعه الكبير واطلالته المضيئة على الحديقة التى تصل ما بين المبنيان بممر طويل تحيطه الشجيرات.  يبدأ الممر بالبوابة الحديدية السوداء تغطيها شجرة ياسمين عجوز تملآ المدخل بالشذى- و الذى ما زلت أتشممه حتى الآن- وتجاور البوابة حجرة صغيرة للحارس .  على يمين الممر مبنانا الصغير نصعد للدور الثانى حيث نقطن بسلم حجرى يلتف لأعلى تتدلى فوقه غصينات شجرة المانجو وتوأمتها فى طرفى الحديقة الا انها يتعانقان فى المنتصف كزوجان محبان ليفرشا الحديقة بظل لطيف يغطيها فيعطى تلطفا لقيظ الصيف وتنفذ أشعة الشمس من بين ثغرات فى الشجرتان العملاقتان نلتمس من تلك النوافذ الدفء فى الشتاء.  وعلى يسار الممر باب حديدى آخر يؤدى لسلالم ذات ترابيزين ملتوى كثيرا ما ركبناه حصانا أو تزحلقنا عليه نزولا.
هذه الحديقة شهدت الكثير من الجرى واللعب مع أولاد الجيران وكانتحدودنا البوابة الكبيرة لا نتخطاها وكانت أيضا سببا فى تعرضنا للتعنيف من الوالدة حين نصعد بعد اللعب ملوثين من اختلاط الماء بتراب الحديقة بعد الرى بالطين رغم تحذير الحارسب عدم اللعب فيها لأنه "لسه ساقى الجنينية"، فنتظاهر باللعب فى الممر ثم حين ينشغل عنا نسحب باب الجيقة الخشبى وننطلق فى لهونا غير محتسبين لما سيحدث لنا وغير عابئين سوى بمتعة الركض وتسلق الشجرتين.  وايضا لللوم من صاحب العمارة لبيب بيه اذا ما اقتربنا من ثمار المانجو خاصته، فينادى على الحارس ليطردنا من جنته ويأمره بغلق البوابو الخشبية لها ولكن ذلك لم يكن يمنعنا من النط فوقها والدخول ولكن فى الصباح وأثناء غيابه عن المنزل للذهاب الى العمل.
مطبخ شقتنا كان هو أيضا غرفة السفرة تتوسطه منضدة مربعة يحيطها عدة كراسى نجلس عليها بالتناوب لتناول الطعام.  أما الصالة فكانت مستطيلة نوعا ما يوجد بها كنبتان اسطمبولى المكسوة بالبياضات فى الركن المقابل لباب الشقة كغرفة معيشة فى الصباح وغرفة زائدة للنوم فى المساء  حين تتحول الكنبتان لسريرين لأخواى الكبار فى الوقت ذاته .  غرفتا النوم تفتحان مباشرة على الصالة واحدة منهما للوالدان والأخرى لنا البنات الخمس ويواجهان الطبخ والحمام من الجهة الأخرى.  أما الفرندة أو البلكونة فهى تطل على الشارع وبعرض الشقة يمكن الخروج اليها من كلتا الغرفتين ورغم أنا كانت مشغولة دائما بالغسيل اليومى المعلق لينشف ( غسيل كوم لحم كما يقولون) الا أنها كانت ملاذى الدائم والوحيد حين ارغب فى  بعض الخصوصية فألجأ اليها واصنع فيها غرفة من الملايات لأنفرد بعيدا عن صخب وضجيج المنزل.  فكل شىء كان ملكية مشتركة فى منزلنا من السرير الى الدولاب الى حتى الملابس التى نتبادلها وتؤول دائما من الكبار الى الصغر باستثناء الأعياد.  كانا والدى حريصا على جلب ويا جديدا لك منا فى كل عيد.  وان لم يستطع تنشط أمى لشراء ما يلزم من أقمشة وتساعدها شقيقاتاى الكبيرتان فى صنع أزياء جديدة لنا.  وليلة العيد تجدنا نحيط بهم فى انتظار ملابسنا الجديدة التى تولد جميلة على أيديهم رغم بساطتها ونتغاضى على وجود بعض الأخطاء غير الملحوظة بها.
كان الحمام رعبى الأكبر، فقد كرهت دوما أن أدخله بمفردى وكانت أمى تظنه نوعا من الجين وكانت تصر على أن أدخل بمفردى فقد كبرت ولا وقت لديها لمثل ذلك  الدلع.  فأين لها الوقت الكافى التى يمكن أن تمنحه لكل منا فى يومها الشاق الطويل من كنس ومسح وترتيب وشراء الطلبات واعداد الطعام والحرس على استحمامنا ونظافتنا والاهتمام بأبى فى سويعاته القليلة بالمنزل.  كان يحزننى أنها لم تكن تحس أو تدرك رعبى الشديد من حفيف الغصون وتحركها لتحتك بشباك الحمام مع هديل الحمام المعشش فوق تلك الغصون لتصنع لى سيمفونية من الأشباح الوهمية فأصرخ جارية خارج الحمام حتى وان أدى ذلك الى خروجى عارية باكية طالبة أن تصحبنى ماما أو الشغالة قبل أن تأكلنى العفاريت.  نعم كانت عندنا أيضا شغالة ولا تسألنى وهل هناك مكان لشغالة مقيمة أيضا؟  نعم كانت تنام على مرتبة تفردها فى المساء فى أرضية  غرفتنا لأنه المكان الوحيد المتاح لها فى وسط عائلة من والدين ووابنان وخمس من البنات ولم يكن أخواى الآخران الأصغر قد أتوا بعد.  وحين يدركنى الخوف أو لا أستطيع النوم أتسلل للنوم فى أحضان شغالتنا على الأرض فوق المرتبة.
حين أصابنا أنا وأختاى - الأكبر منى والأصغر وكانت لم تكمل العامين- مرض الجديرى المائى ،كانت تفرش لنا أمى مرتبة فى أرضية المطبخ وتغطينا بالبطاطين الرمادية لأنه كان المكان الوحيد الذى تسطع فيه الشمس طوال النهار،  وحتى نكون فى حراستها ورعايتها وهى تصنع الطعام.  ما زلت أحس بالشرائط  تكبل يداى  حتى لا أحك جلدى من شدة الألم ورغم حرص الشغالة على مراقبتنا حتى لا نفك وثاقنا ،الا أن وجهى مازال يحمل بعض آثار لندبات من جراء الهرش حين أنجح فى افلات احدى يداى.  أذكر لسعة الدواء السائل الوردى البارد حين يلمس أجسادنا المحمومة فأرتعش رغم الغطاء والدفء وتزكمنى رائحته المميزة.  تتناوب جارتنا مع الشغالة استخدام الكمادات الباردة لتنزيل الحرارة و لاتستطيع أمى الإقتراب منا حتى لا تنتقل لها العدوى فقد كانت حاملا فى أحد أخوى الأصغر.  كانت أمى فى الحقيقة حريصة على صحتنا الجسدية ولكنها كانت أبعد ما يكون عن صحتنا النفسية.  لا اذكر أنها كانت تضمنى أو تدللنى الا نادرا.  فأين لها الوقت والجهد وهى سنة حامل فى طفل جديد وسنة أخرى ترضعه حتى تحمل؟!  أما التدليل فكان ينبوعا خاصا بأبى حين يتواجد فى سويعاته القليلة بالمنزل.  فرغم أنه كان يعمل فترتان بينهما راحة غداء فى المنزل الا أنه فى المساء ورغم تعبه الشديد يجد بعض الوقت ليدللنا ويقبلنا وكانت أمى ترى أنه سيفسدنا بهذا الفعل.
جيراننا فى المنزل الكبير من أصحاب الأملاك والموظفين الكبار فى الحكومة ومنهم صاجب المنزل عم لبيب أو لبيب بيه كما كانوا يلقبونه.  المنزل مكون من طوابق خمس بكل طابق شقتان أحداهما واسعة 7 غرف والأخرى 3 غرف.  كنا لا نستوعب لماذا بتعالى أطفالهم أحيانا علينا حتى أدركنا ان أبى تاجر وولهذا لا يرقى لمستوى جيرتهوهم ذوى المراكز وذوى الحيازات من العقارات والراضى الزراعية.  كان منزلنا الصغير يتزاحم فيه الأبناء فى غرفة أما منازل بعض جيراننا فلكل طفل غرفة  وفى الغالب يكونا طفلان فقط فى الأسرة وبينهما غرفة الخادم النوبى ليكون على مقربة منهما اذا ما احتاجاه ناهيك عن رفاهية وجود 3 حمامات يستعملون أى منها وقتما يشائون،  بينما نقف على باب حمامنا الوحيد وخاصة فى الصبح طابورا فى انتظار الدور.
يتراءى لى قماش الصالون الصغير فى ركن غرفة أمى مجرد كنبة و2 فوتي من القماش النبيتى المائل للبنى بنقشة أفغانية ولونه الخشبى كلون ثمرة البندق  وطاولة صغيرة من الرخام والخشب.  حين تأتى صديقات أمى فى زيارتهن الأسبوعية الصباحية لشرب القهوة يجلسن فيه ليثرثرن بعيدا عن فضول أذاننا للإستماع لأحاديث الكبار.  ولا يضايقهن وجود غرفة النوم لوالداى فى نفس المكان بل على العكس كن يستخدمن مرايا الدولاب للقياس والتضبيط حين تحيك لهم أمى بعض الثياب مجاملة منها بعد أن ياتين لها بالقماش اللازم.
عدد الأسرة فى غرفتنا الواسعة ثلاث بالإضافة الى الدولاب الكبير والذى بالكاد يسع أشيائنا جميعا نحن الولاد والبنات . كنا ننام كل اثنتين فى سرير وأحيانا ثلاث حين تزورنا احدى الجدات والتى تحتل سريرا بمفردها طوال اقامتهما والتى قد تطول لأسبوع أو أكثر.  فلابد من الذهاب لزيارة أولياء الله فى يوم والنزول للسوق لجلب المشتريات فى يوم آخر ، ثم استقبال الأقارب والجارات حين يعلمون بقدومهما فى ايام أخرى.   وقد يشمل أيضا الذهاب للمستشفى للكشف اذا ألم بهما أى مرض.  كنا نكره أن ننام فى أحضان أى منهما لأنهما كانتا تأتيان محملاتان برائحة القرية التى تزكم أنوفنا والتى نفوح رغما عنهما من ملابسهما.  وعلى كرهنا لتلك الرائحة الا أننا كنا نسعد بتلك الزيارت وما يصطحبانه لنا من أطايب الطعام:  الفطير المشلتت والزبد الفلاحى والقشدة والعسل علاوة على أشولة الدقيق و البطاطس والبصل والمحصولات الزراعية الأخرى من البقول والأرز.  وحين تأتى الزيارة وهى موسمية  من مرتين الى أربع فى العام ، تنشط أمى لتفرقة بعض منها على الجيران وتذهب احدانا - وكنت فى الغالب أحظى بهذا الشرف- بصحبة الشغالة لإيصالها للجارات. وغالبا ما نقابل بالحفاوة العارمة فى استقبالنا ، وحينها فقط كنت أحس ببعض المساواة والتعادل بيننا.  ومن العادات الجميلة التىقاربت أن تندثر الان ، ان تلك الأوعية والأطباق لا تعود  أبدا خاوية وانما ممتلئة بما لذ وطاب من صنع الجارات من الكحك والفطائروالكيك والجاتوه .  فكنا نحن الصغار نسعد فى المرتين فهذه الهدايا رداعلى زيارتنا كانت طلاسم بعيدة المدى بالنسبة لنا.  ورغم ان أمى طباخة ماهرة الا أن صناعة الحلوى عندنا كانت شيئا مختلفا تعتمد فى الأساس على أطباق الأرز باللبن والمهلبية وما شابه من أى شىء بسكر والسلام.
نذهب لللعب مع أطفال الجيران وكان معظمهم ذكور ليصدمنا بشدة سكون الغرف وجدرانها المتسعة الباردة هذا بالإضافة على أدبهم المفتعل وهم يوصونا بالحرص على المحافظة على ترتيب الغرفة أثناء اللعب.  ونحن ايضا كنا مؤدبون ولكن فى عفوية وكان بيتنا نظيفا رغم بساطة الأثاث ، لكنه لم يكن مرتبا ترتيب المسطرة كبيوت الجارات.  حين نتسلل لغرفة جلوس أى من الجارات نفاجأ بالبراويز المعلقة على الجدران والتى تحوى صورا لكبارالعائلة والجدود من بهوات وبشوات . نضحك ضحكات مكتومة على الشوارب المفتولة والنظرات الصارمة لتلك الشخصيات الأثرية كأننا فى زيارة لمتحف الأسرة.  وغالب ما تنفض وصلة اللعب بشجار لسبب ما بيننا،  فننسحب بهدوء غاضبينرغم اغراء الألعاب الكثيرة والتى كانت تمثل لنا كنز على بابا  ولا نعود الا بعد أن تنادى علينا أمهاتهم  لترجونا الذهاب اليهم ويعتذرون نيابة عن أولادهم.  فغاية ما كنا نملك من ألعاب هى عروسة نصنعها من القماش نحشوها قطنا ونضع على رأسها شعرا منخيوط الصوف أو أثا للعروسة مصنوع من غطيان قزاز الكازوزة.  أما لماذا كانوا فى حاجة لنا؟ فاظن أننا  كنا ندخل الدفء والسعادة فى تلك البيوت المتأنقة فى جمود. وأن أولادهم كانوا يشعرون بالوحدة أما نحن فصحبة والصحبة دائما ممتعة.   والأهم من كل ذلك اننا بنات، والأمهات غالبا يشتقن لخلفة البنات فيعوضونها فينا.  حتى جارتنا العروس كانت تأخذ أحدانا لتؤنس وحدتها حتى يعود الزوج من العمل. أذكرها وهى تسرح لى شعرى المتموج وكنت دائمة الإنتكاش فأستسلم لها رغم كرهى للتسريح لعطشى الداثم للإهتمام بى بصفة خاصة .  احساسى بأنى لست الكبرى ولا الصغرى ولا الأجمل بل مجرد فرد غير متميز فى العائلة.  كانت تداعبنى وتحضر لى البونبون والشيكولاتة ورغم انها كانت تجارة أبى وبالطبع كان  يحضر لنا منها الا أن نصيبنا بعد التفرقة علينا لا يبلغ ما كانت جارتنا تمنحنى اياه وحدى.  ليست طفاسة منىوالله ،  فوالداى كانا حريصان أن ننشأ عيوننا كما يقولون مليانة لكنه الإحتياج للإستئثار بالإهتمام والشعور بنقص العاطفة والحب الخاص وليس العام.
ان الأهل الذين ينجبون الكثير من الأولاد لا يدرون أنهم يجنون على أولادهم. وان أولادهم قد يصابون بالأحاسيس الداخلية بالحرمان سواءا كان العاطفى (وهو الأهم)  أوالمادى.  ورغم دخل ابى المعقول  والذى كان  يتساوى مع هؤلاء الموظفون أو يزيد الا أن كثرة العدد والمسؤليات كانت تكفى  فقط الضروريات والأساسيات على حساب الترفيه والرفاهية.  ولم يكن من الفائض للمستقبل لذا كان أبى يهتم جيدا بتعليمنا فقد كان يرى أن الميراث الحقيقى الذى سيتركه لنا.   وما كان يعوضنا عن كل المنغصات من ذلك الإزدحام والذى قد يصل الى حد الإختناق أحيانا ، هو التنعم والتدثر بدفء الأسرة الكبيرة ،   واللمة الضاحكة فى الفرح وحتى اللمة الباكية أحيانا فى الحزن. 
وصحيح القول بأنه ليس كل قسمة ضيزى... والله دائما معوضا ومخلفا.  رحم الله أمى وأبى..... اللهم آمين.

الجمعة، 13 يناير 2012

العصفور أخى

تربطنى باخوتى جميعهم علاقة أتخيلها خاصة. لكل منهم معزة مختلفة بداخلى. يتحملونى واحمل عنهم همومهم. نحن التسعة نتشابه فى بعض الصفات والملامح ولكن أيضا نختلف فيهما. صعب أن أختصر شخصية كل منهم فى كلمة ولكن تتبادر لذهنى صفة فورية اذا ما لاح وجه أحدهم فى مخيلتى. فمنى مثلا: العدل، ومنيرة: الخيال، ومحمد: الاستسهال، ومجدى: العفوية ومختار (رحمة الله) عليه: الطيبة ، ولكنى أجد من الصعوبة بمكان أن أصف أخى الأكبر فى صفة واحدة واذا اضطررت فالصفة الأولى ستكون: الذكاء. ولآن له معزة الأب فى نفسى ومكانة القدوة فى حياتى ، وجدتنى حائرة فى البدء فى الكتابة عنه.

نعم كنت اتطلع اليه بانبهار وانا صغيرة ،واقول فى نفسى: "أتمنى أن أكون مثله حين أكبر". كان القدوة المثلى لى (Ideal). تجمعنى به بعض الهوايات منها حب القراءة والسفر والانفتاح على العالم وأيضا مثله أحب الحياة.

أخى الكبير أو عصفور كما يطلقون عليه أصدقاء الدراسة القدامى هو بكرى العائلة وقرة عين ابى وأمى ، لعب الرياضة وأتقن السباحة فى طفولته. يفصل بيننا 12 عام ، وهى ليست أعواما كثيرة ولكن لدهشتى لا أعى تفاصيلتجمعنى به فى الذاكرة قبل دراسته الجامعية.

أبيض البشرة باسم الوجه ضحوك يحب النكتة ويلقيها: لتضحك على ضحكته قبل أن تعى مفهوم النكتة. دب المشيب فى شعره وهو دون فى العشرون فأكسبه وقارا وجمالا. دون جوان كليته دون منازع ولم لا؟ فهو الراقص والمغنى والمؤلف والممثل ، ولكنه ليس أبدا الطالب فالدراسة تأتى فى نهاية اهتماماته الكثيرة، ومع هذا نجح فى انهاء دراسته الجامعية بهندسة أسيوط بعد أعوام عديدةمن النجاح والرسوب. وصحيح أنه قضى فى الدراسة أعواما أكثر مما ينبغى ، لكنه برع فى عمله بعد ذلك سواءا فى الجيش والذى قضى فيه أكثر من 10 أعوام كضابط احتياط، أو فى عمله بهيئة المساحة. زرته هناك مرة واحدة وكان مديرا لمجموعة من السيدات. وجدتهن يقمن بشف بعض البترونات بدلا من عمل الرسومات وحين استفسرت منه قال "ماهو مفيش شغل، أهم بيتسلوا بدل ما يزهقوا". لكنه هو زهق من قلة العمل و سرعان ما استقال من عمله الحكومى وبدأ عمله الخاص . كان ذلك بالطبع مخاطرة جسيمة منه، لكنها روح المغامر فى طبيعته، ألقى بنفسه فى مدار العمل الخاص دون سلاح كاف من الأموال. ليكلل الله خطاه بالنجاح لرضا الوالدين عنه ولدعاء والدته له بأن يحبب الله فيه خلقه.

أخى درس الهندسة فى أسيوط، وسافر بمفرده ولم يكمل العشرون من عمره الى صعيد مصر لكى يلتحق هناك بالكلية التى دخلها بامتيازه الرياضى وليس بتفوقه الدراسى. يأتى لزيارتنا مرة كل شهر محملا بالحكايات التى تجعلنا نسهر متحلقين حوله نستمع بانبهار لمغامراته فى بلاد الجنوب. حكاياته لا تخلو من القفشات والنوادر عن الصعايدة، تجعلنا ننتظر قدومه بلهفة. يحتل غرفة خاصة فى المنزل تظل فى انتظاره حتى عودته دون أن يلمسها أحد وهى فى الحقيقة غرفة بداخل غرفة أى لا يستطيع الدخول اليها الا عن طريق غرفة أخرى أظن أنها كانت غرفة الجلوس وكان ذلك فى بيتنا فى شارع عازر غبريال بشبرا.

اخى يصحبنى الى جامعة القاهرة فى بروفات التصفيات الجامعية. أجوس بين كواليس المسرح لأرى كيف يغيرون ثيابهم فى ثوان استعدادا للفقرة التالية.؟ كيف يتمرنون على الرقصات دون موسيقى؟ ولكن بالعد والطبلة فقط وواحد اثنين ثلاثة هوب. أتابع تصفيات ما تشات كرة السلة وأسعد بما أرى وأنا ابنة الثامنة تبهرنى أضواء المسرح ومدرجات الملاعب . يحب أخى السخرية واطلاق الألقاب علينا. كان لقبى الذى استفزنى فى الصغر" ام ايدين مرخرخة" فمن الواضح انى كنت كسولة ولا أحب أن يأمرنى أحد فأدعى ان يدى ضعيفتان لا تقدران على حمل الأشياء. مازال أخى يحب أن يحكى عنى تلك النادرة ويغرق فى الضحك غير عابىء باحراجى.

أخى يسافر ألمانيا فى الصيف ليتمرن فى الأجازات ويعود محملا كعادته بحكايات عن العالم الآخر. منه أحببت السفر وعشقت الترحال وجاءت معظم رحلاتى برفقته: سافرت معه الى الصين وهونج كونج وأندونيسيا وسنغافورة وفرنسا وانجلترا وكندا ، وحتى اول حجة كان هو المحرم لى فى عام 1984. نتجادل كثيرا..... نختلف أكثرمما نتفق. أكره تدخينه فى غرفة النوم التى تجمعنا فى السفريات ويكره استبدادى فى تحديد كيفية قضاء اليوم واتجاه السير. لكننا نعود للسفر معا رغم كل شىء، حتى انه كان يصطحبنى فى رحلاته الداخلية فى مصر بالسيارة الى المحافظات الأخرى ليجد من يتحدث معه حتى لا يغلبه النوم أثناء القيادة.

نختلف فى الآراء ، لكن كل منا يستمع لوجهة نظر الآخر دون خصومة . وغالبا أكتشف أنه كان يسمعنى ولكنه ينصت فقط لما يستهويه فى الحديث . ومن الجائز أن يعيد التفكير فى كلامى فيما بعد ويتبعه اذا اقتنع به. لم نتباعد سوى مرة واحدة اختلفنا وغادر أخى منزلنا غاضبا منى لعدم موافقتى على أن يفتح مكتب فى غرفة داخل شقة العائلة والمكتوب ايجارها باسمه طبقا لارادة ابى. والحقيقة انه طلب غرفة بالذات وأنا اقترحت غرفة أخرى لكنه غضب ورحل. لا أذكر كم استمرت فترة الخصام ربما كانت بضعة أشهر، لكننا تصالحنا ونحن فى الطريق الى الحج وفى السيارة التى أقلتنا للمطار.

يرى أخى أحيانا أنى مسرفةحين اسرف فى المشتريات فى السفر،

وأحيانا يتهمنى بالبخل ، واضحك فى نفسى لتناقض الرأيان ربما لأنى لست مضيافة جيدة ، فأنا اعزم على الناس فاذا ما رفضوا أسكت. والحقيقة انى أكره أن يلح على أحد بالكل أو الشرب دون رغبتى. ولذا لا ألح على الآخرين. ومؤخرا صرت أضع كل ما عندى على الطاولة وأتركه لمن يريد وقتما يريد. قد نغيب عن اللقاء شهور لكنى أحرص على الإتصال به دوما وكيف لا وهو معلمى ومثلى الأعلى. وأنا أحبه رغم كل اختلافاتنا فهو عنيد لا تستطيع أن تغير رأيه فى شىء الا اذا أقنعته وهذا ليس بالأمر الهين ، لأنه يستلزم أحيانا كثيرا من الجهد.

لآ أنسى أنه رفض أن أذهب أثناء دراستى الإعدادية للتمرين على السباحة مع الفريق رغم موافقة ابى ، ولذا لم تتح لى أبدا الفرصة لتعلم السباحة. لكنه كان سببا دون أن يقصد فى تعلقى بالقراءة. كنت اقترض كتبه أثناء سفره لأقرأها فى غيابه (ولا أقول أسرقها من دولابه المغلق) فلقد نجحت فى الحصول على مفتاح مطابق لدرفة دولابه. وكنت أستخدمه لاستعارة كتاب يتلو الآخر ثم أعيدهم كما كانوا داخل الدولاب ولم أسأله ابدا ألاحظ ذلك أم لا؟ كان "كتاب حول العالم فى 200 يوم" هو أول ما أقرأ فأنبهر به ويحملنى فى أحلامى لتلك الدول التى زارها أنيس منصور فأصبوا للسفر ويتحقق لى ذلك أيضا بصحبة أخى.

أخى تزوج صغيرا وفى يوم واحد مع أختى وما زلت أذكر زفافه وكيف كان وسيما كعادته دائما فى حلته. تزوج معنا فى شقة العائلة والتى لاأدرى كيف كانت تتسع لنا جميعا الأسرة الكبيرة والأسرة الصغيرة. أولاده أربعة فقد احداهن وهى طفلة صغيرة. يحبهم كثيرا ويفعل من أجل أحفاده الأكثر. لم يجلس أبدا يذاكر لأولاده ولم يعاقبهم على الدرجات السيئة. فلأخى فلسفة فى الحياة أن لكل ما قدر له فلماذا نشغل أنفسنا؟ ورغم هذا فهو يحب العمل ويقضى الكثير من يومه فى الإنشغال به وهو دؤوب لا يمل من العمل المتواصل.

أخى يحب الفسح ويصطحب أولاده فى رحلات اليوم الواحد أو لعدة أيام فى رحلات داخلية داخل البلاد ويصحبنا أنا وأختى الصغرة وأولاد أختى المتوفاة والذى ضم ابنتها الى أولاده لتنشأ معهم كأخت لهم. . أخى يضع الناس فى قوالب يصهرهم فيها ولا يغير رأيه عنهم حتى وان تغيروا. له نظرة ثاقبة فى كل شخص وغالبا ما تكون نظرة صائبة. يحب الحياة ولا يحمل هما للدنيا. شديد الذكاء وسريع الإستجابة لردود الفعل لكنه شديد التمهل فى اتخاذ القرارات ، كثير التفكير فى الأمور الهامة فتأتى قراراته غالبا متعقلة وبعيدة عن المشاعر بل تصب فى المصلحة مباشرة. له عندنا منزلة الأب الذى غادرنا منذ أكثر من 30 عاما. يحمل عنا هموم العائلة ويدبر أمرها بمعرفته وبمسئولية كبيرة منه.

اذا غضب أخى فالأفضل أن ترحل من أمامه فورا. فكما النهر الهادر فى غضبه وكما النهر الصافى فى روقانه حين يهدأ ولكن بعد حين. يتحول العصفور الوديع الى نسر يجب أن تخافه. لا يحمل كرها لأحد وذاكرته ديناصورية -ما شاء الله- لا ينسى ما له أبدا، ورغم ذلك يفشل فى تنظيم أوراقه التى تتناثر فى عدة أماكن بل وعدة منازل ومكاتب ، ويدهشك أنه يجد ما يريد وقتما يريد وسط كل تلك الفوضى. مثابر أخى :علم نفسه الكمبيوتر وأصبح مدمنا له وبه يبحر حول العالم حين لا يقدر على السفر فعليا.

أخى يحب أن يدلع نفسه ويهوى شراء الكرافتات رغم أنه يكره ارتدائها، وكذلك له ذوق خاص فى البارفانات نادرا ما يغيره . فى ملابسه ينتقى أبسطها وأكثرها عملية. يكره ارتداء البدلة الرسمية، ويحب الملابس الرياضية. يرى الإسراف فى الشراء عند من حوله من أشخاص وينتقده ، ويكره التبذير الغير مبرر من وجهة نظره. لكنه يضعف أمام شىء يجذبه فيدفع فيه أكثر من قيمته لمجرد أنه أعجبه. لاتستطيع أن تأخذ منه الا ما يريد هو أن يعطيه، وتلك قاعدة التعامل معه الا من بعض أقراد معدودين هم الإستثناء من تلك القاعدة ، وأندهش كيف استطاعوا هم باذات النفاذ سريعا الى قناعته. لا يقدر أحد على مصارحته بحطأ ما ليس خوفا ولكن احتراما لكبير العائلة واجلال له.

ظل أخى منيرا لحياة أبى وأمى وبارا بهما حتى آخر أنفاسهما، وما زال يرعى الله فينا نحن اخوته بقدر ما يستطع.

أبقاه الله فوق رؤوسنا دائما بركة لنا ونبراسا نهتدى به، وأعطاه المزيد من الصحة والعافية , اللهم آمين.