الجمعة، 13 يناير 2012

العصفور أخى

تربطنى باخوتى جميعهم علاقة أتخيلها خاصة. لكل منهم معزة مختلفة بداخلى. يتحملونى واحمل عنهم همومهم. نحن التسعة نتشابه فى بعض الصفات والملامح ولكن أيضا نختلف فيهما. صعب أن أختصر شخصية كل منهم فى كلمة ولكن تتبادر لذهنى صفة فورية اذا ما لاح وجه أحدهم فى مخيلتى. فمنى مثلا: العدل، ومنيرة: الخيال، ومحمد: الاستسهال، ومجدى: العفوية ومختار (رحمة الله) عليه: الطيبة ، ولكنى أجد من الصعوبة بمكان أن أصف أخى الأكبر فى صفة واحدة واذا اضطررت فالصفة الأولى ستكون: الذكاء. ولآن له معزة الأب فى نفسى ومكانة القدوة فى حياتى ، وجدتنى حائرة فى البدء فى الكتابة عنه.

نعم كنت اتطلع اليه بانبهار وانا صغيرة ،واقول فى نفسى: "أتمنى أن أكون مثله حين أكبر". كان القدوة المثلى لى (Ideal). تجمعنى به بعض الهوايات منها حب القراءة والسفر والانفتاح على العالم وأيضا مثله أحب الحياة.

أخى الكبير أو عصفور كما يطلقون عليه أصدقاء الدراسة القدامى هو بكرى العائلة وقرة عين ابى وأمى ، لعب الرياضة وأتقن السباحة فى طفولته. يفصل بيننا 12 عام ، وهى ليست أعواما كثيرة ولكن لدهشتى لا أعى تفاصيلتجمعنى به فى الذاكرة قبل دراسته الجامعية.

أبيض البشرة باسم الوجه ضحوك يحب النكتة ويلقيها: لتضحك على ضحكته قبل أن تعى مفهوم النكتة. دب المشيب فى شعره وهو دون فى العشرون فأكسبه وقارا وجمالا. دون جوان كليته دون منازع ولم لا؟ فهو الراقص والمغنى والمؤلف والممثل ، ولكنه ليس أبدا الطالب فالدراسة تأتى فى نهاية اهتماماته الكثيرة، ومع هذا نجح فى انهاء دراسته الجامعية بهندسة أسيوط بعد أعوام عديدةمن النجاح والرسوب. وصحيح أنه قضى فى الدراسة أعواما أكثر مما ينبغى ، لكنه برع فى عمله بعد ذلك سواءا فى الجيش والذى قضى فيه أكثر من 10 أعوام كضابط احتياط، أو فى عمله بهيئة المساحة. زرته هناك مرة واحدة وكان مديرا لمجموعة من السيدات. وجدتهن يقمن بشف بعض البترونات بدلا من عمل الرسومات وحين استفسرت منه قال "ماهو مفيش شغل، أهم بيتسلوا بدل ما يزهقوا". لكنه هو زهق من قلة العمل و سرعان ما استقال من عمله الحكومى وبدأ عمله الخاص . كان ذلك بالطبع مخاطرة جسيمة منه، لكنها روح المغامر فى طبيعته، ألقى بنفسه فى مدار العمل الخاص دون سلاح كاف من الأموال. ليكلل الله خطاه بالنجاح لرضا الوالدين عنه ولدعاء والدته له بأن يحبب الله فيه خلقه.

أخى درس الهندسة فى أسيوط، وسافر بمفرده ولم يكمل العشرون من عمره الى صعيد مصر لكى يلتحق هناك بالكلية التى دخلها بامتيازه الرياضى وليس بتفوقه الدراسى. يأتى لزيارتنا مرة كل شهر محملا بالحكايات التى تجعلنا نسهر متحلقين حوله نستمع بانبهار لمغامراته فى بلاد الجنوب. حكاياته لا تخلو من القفشات والنوادر عن الصعايدة، تجعلنا ننتظر قدومه بلهفة. يحتل غرفة خاصة فى المنزل تظل فى انتظاره حتى عودته دون أن يلمسها أحد وهى فى الحقيقة غرفة بداخل غرفة أى لا يستطيع الدخول اليها الا عن طريق غرفة أخرى أظن أنها كانت غرفة الجلوس وكان ذلك فى بيتنا فى شارع عازر غبريال بشبرا.

اخى يصحبنى الى جامعة القاهرة فى بروفات التصفيات الجامعية. أجوس بين كواليس المسرح لأرى كيف يغيرون ثيابهم فى ثوان استعدادا للفقرة التالية.؟ كيف يتمرنون على الرقصات دون موسيقى؟ ولكن بالعد والطبلة فقط وواحد اثنين ثلاثة هوب. أتابع تصفيات ما تشات كرة السلة وأسعد بما أرى وأنا ابنة الثامنة تبهرنى أضواء المسرح ومدرجات الملاعب . يحب أخى السخرية واطلاق الألقاب علينا. كان لقبى الذى استفزنى فى الصغر" ام ايدين مرخرخة" فمن الواضح انى كنت كسولة ولا أحب أن يأمرنى أحد فأدعى ان يدى ضعيفتان لا تقدران على حمل الأشياء. مازال أخى يحب أن يحكى عنى تلك النادرة ويغرق فى الضحك غير عابىء باحراجى.

أخى يسافر ألمانيا فى الصيف ليتمرن فى الأجازات ويعود محملا كعادته بحكايات عن العالم الآخر. منه أحببت السفر وعشقت الترحال وجاءت معظم رحلاتى برفقته: سافرت معه الى الصين وهونج كونج وأندونيسيا وسنغافورة وفرنسا وانجلترا وكندا ، وحتى اول حجة كان هو المحرم لى فى عام 1984. نتجادل كثيرا..... نختلف أكثرمما نتفق. أكره تدخينه فى غرفة النوم التى تجمعنا فى السفريات ويكره استبدادى فى تحديد كيفية قضاء اليوم واتجاه السير. لكننا نعود للسفر معا رغم كل شىء، حتى انه كان يصطحبنى فى رحلاته الداخلية فى مصر بالسيارة الى المحافظات الأخرى ليجد من يتحدث معه حتى لا يغلبه النوم أثناء القيادة.

نختلف فى الآراء ، لكن كل منا يستمع لوجهة نظر الآخر دون خصومة . وغالبا أكتشف أنه كان يسمعنى ولكنه ينصت فقط لما يستهويه فى الحديث . ومن الجائز أن يعيد التفكير فى كلامى فيما بعد ويتبعه اذا اقتنع به. لم نتباعد سوى مرة واحدة اختلفنا وغادر أخى منزلنا غاضبا منى لعدم موافقتى على أن يفتح مكتب فى غرفة داخل شقة العائلة والمكتوب ايجارها باسمه طبقا لارادة ابى. والحقيقة انه طلب غرفة بالذات وأنا اقترحت غرفة أخرى لكنه غضب ورحل. لا أذكر كم استمرت فترة الخصام ربما كانت بضعة أشهر، لكننا تصالحنا ونحن فى الطريق الى الحج وفى السيارة التى أقلتنا للمطار.

يرى أخى أحيانا أنى مسرفةحين اسرف فى المشتريات فى السفر،

وأحيانا يتهمنى بالبخل ، واضحك فى نفسى لتناقض الرأيان ربما لأنى لست مضيافة جيدة ، فأنا اعزم على الناس فاذا ما رفضوا أسكت. والحقيقة انى أكره أن يلح على أحد بالكل أو الشرب دون رغبتى. ولذا لا ألح على الآخرين. ومؤخرا صرت أضع كل ما عندى على الطاولة وأتركه لمن يريد وقتما يريد. قد نغيب عن اللقاء شهور لكنى أحرص على الإتصال به دوما وكيف لا وهو معلمى ومثلى الأعلى. وأنا أحبه رغم كل اختلافاتنا فهو عنيد لا تستطيع أن تغير رأيه فى شىء الا اذا أقنعته وهذا ليس بالأمر الهين ، لأنه يستلزم أحيانا كثيرا من الجهد.

لآ أنسى أنه رفض أن أذهب أثناء دراستى الإعدادية للتمرين على السباحة مع الفريق رغم موافقة ابى ، ولذا لم تتح لى أبدا الفرصة لتعلم السباحة. لكنه كان سببا دون أن يقصد فى تعلقى بالقراءة. كنت اقترض كتبه أثناء سفره لأقرأها فى غيابه (ولا أقول أسرقها من دولابه المغلق) فلقد نجحت فى الحصول على مفتاح مطابق لدرفة دولابه. وكنت أستخدمه لاستعارة كتاب يتلو الآخر ثم أعيدهم كما كانوا داخل الدولاب ولم أسأله ابدا ألاحظ ذلك أم لا؟ كان "كتاب حول العالم فى 200 يوم" هو أول ما أقرأ فأنبهر به ويحملنى فى أحلامى لتلك الدول التى زارها أنيس منصور فأصبوا للسفر ويتحقق لى ذلك أيضا بصحبة أخى.

أخى تزوج صغيرا وفى يوم واحد مع أختى وما زلت أذكر زفافه وكيف كان وسيما كعادته دائما فى حلته. تزوج معنا فى شقة العائلة والتى لاأدرى كيف كانت تتسع لنا جميعا الأسرة الكبيرة والأسرة الصغيرة. أولاده أربعة فقد احداهن وهى طفلة صغيرة. يحبهم كثيرا ويفعل من أجل أحفاده الأكثر. لم يجلس أبدا يذاكر لأولاده ولم يعاقبهم على الدرجات السيئة. فلأخى فلسفة فى الحياة أن لكل ما قدر له فلماذا نشغل أنفسنا؟ ورغم هذا فهو يحب العمل ويقضى الكثير من يومه فى الإنشغال به وهو دؤوب لا يمل من العمل المتواصل.

أخى يحب الفسح ويصطحب أولاده فى رحلات اليوم الواحد أو لعدة أيام فى رحلات داخلية داخل البلاد ويصحبنا أنا وأختى الصغرة وأولاد أختى المتوفاة والذى ضم ابنتها الى أولاده لتنشأ معهم كأخت لهم. . أخى يضع الناس فى قوالب يصهرهم فيها ولا يغير رأيه عنهم حتى وان تغيروا. له نظرة ثاقبة فى كل شخص وغالبا ما تكون نظرة صائبة. يحب الحياة ولا يحمل هما للدنيا. شديد الذكاء وسريع الإستجابة لردود الفعل لكنه شديد التمهل فى اتخاذ القرارات ، كثير التفكير فى الأمور الهامة فتأتى قراراته غالبا متعقلة وبعيدة عن المشاعر بل تصب فى المصلحة مباشرة. له عندنا منزلة الأب الذى غادرنا منذ أكثر من 30 عاما. يحمل عنا هموم العائلة ويدبر أمرها بمعرفته وبمسئولية كبيرة منه.

اذا غضب أخى فالأفضل أن ترحل من أمامه فورا. فكما النهر الهادر فى غضبه وكما النهر الصافى فى روقانه حين يهدأ ولكن بعد حين. يتحول العصفور الوديع الى نسر يجب أن تخافه. لا يحمل كرها لأحد وذاكرته ديناصورية -ما شاء الله- لا ينسى ما له أبدا، ورغم ذلك يفشل فى تنظيم أوراقه التى تتناثر فى عدة أماكن بل وعدة منازل ومكاتب ، ويدهشك أنه يجد ما يريد وقتما يريد وسط كل تلك الفوضى. مثابر أخى :علم نفسه الكمبيوتر وأصبح مدمنا له وبه يبحر حول العالم حين لا يقدر على السفر فعليا.

أخى يحب أن يدلع نفسه ويهوى شراء الكرافتات رغم أنه يكره ارتدائها، وكذلك له ذوق خاص فى البارفانات نادرا ما يغيره . فى ملابسه ينتقى أبسطها وأكثرها عملية. يكره ارتداء البدلة الرسمية، ويحب الملابس الرياضية. يرى الإسراف فى الشراء عند من حوله من أشخاص وينتقده ، ويكره التبذير الغير مبرر من وجهة نظره. لكنه يضعف أمام شىء يجذبه فيدفع فيه أكثر من قيمته لمجرد أنه أعجبه. لاتستطيع أن تأخذ منه الا ما يريد هو أن يعطيه، وتلك قاعدة التعامل معه الا من بعض أقراد معدودين هم الإستثناء من تلك القاعدة ، وأندهش كيف استطاعوا هم باذات النفاذ سريعا الى قناعته. لا يقدر أحد على مصارحته بحطأ ما ليس خوفا ولكن احتراما لكبير العائلة واجلال له.

ظل أخى منيرا لحياة أبى وأمى وبارا بهما حتى آخر أنفاسهما، وما زال يرعى الله فينا نحن اخوته بقدر ما يستطع.

أبقاه الله فوق رؤوسنا دائما بركة لنا ونبراسا نهتدى به، وأعطاه المزيد من الصحة والعافية , اللهم آمين.

ليست هناك تعليقات: