الثلاثاء، 12 يونيو 2012

ذكريات الطفولة البعيدة



هل تقدر طفلة فى الثالثة أو الرابعةعلى تذكر أحداث سنواتها الأولى؟  لا أدرى ما صحة ذلك علميا ولكنى أذكر طفولتى فى ومضات تترائى لى كالحلم بين الغمام،  أذكر المنزل الذى ولدت فيه ، كان مبنى صغير من الحجريتكون من دورين ملحق بحديقة العمارة الأصلي ةوكنا نسكن الطابق الثانى فيه والأخير.  المبنى يعود للأربعينيات.  مجرد غرفتين للنوم وصالة بالإضافة الى الحمام والمطبخ.  أهم ما يميز المطبخ اتساعه الكبير واطلالته المضيئة على الحديقة التى تصل ما بين المبنيان بممر طويل تحيطه الشجيرات.  يبدأ الممر بالبوابة الحديدية السوداء تغطيها شجرة ياسمين عجوز تملآ المدخل بالشذى- و الذى ما زلت أتشممه حتى الآن- وتجاور البوابة حجرة صغيرة للحارس .  على يمين الممر مبنانا الصغير نصعد للدور الثانى حيث نقطن بسلم حجرى يلتف لأعلى تتدلى فوقه غصينات شجرة المانجو وتوأمتها فى طرفى الحديقة الا انها يتعانقان فى المنتصف كزوجان محبان ليفرشا الحديقة بظل لطيف يغطيها فيعطى تلطفا لقيظ الصيف وتنفذ أشعة الشمس من بين ثغرات فى الشجرتان العملاقتان نلتمس من تلك النوافذ الدفء فى الشتاء.  وعلى يسار الممر باب حديدى آخر يؤدى لسلالم ذات ترابيزين ملتوى كثيرا ما ركبناه حصانا أو تزحلقنا عليه نزولا.
هذه الحديقة شهدت الكثير من الجرى واللعب مع أولاد الجيران وكانتحدودنا البوابة الكبيرة لا نتخطاها وكانت أيضا سببا فى تعرضنا للتعنيف من الوالدة حين نصعد بعد اللعب ملوثين من اختلاط الماء بتراب الحديقة بعد الرى بالطين رغم تحذير الحارسب عدم اللعب فيها لأنه "لسه ساقى الجنينية"، فنتظاهر باللعب فى الممر ثم حين ينشغل عنا نسحب باب الجيقة الخشبى وننطلق فى لهونا غير محتسبين لما سيحدث لنا وغير عابئين سوى بمتعة الركض وتسلق الشجرتين.  وايضا لللوم من صاحب العمارة لبيب بيه اذا ما اقتربنا من ثمار المانجو خاصته، فينادى على الحارس ليطردنا من جنته ويأمره بغلق البوابو الخشبية لها ولكن ذلك لم يكن يمنعنا من النط فوقها والدخول ولكن فى الصباح وأثناء غيابه عن المنزل للذهاب الى العمل.
مطبخ شقتنا كان هو أيضا غرفة السفرة تتوسطه منضدة مربعة يحيطها عدة كراسى نجلس عليها بالتناوب لتناول الطعام.  أما الصالة فكانت مستطيلة نوعا ما يوجد بها كنبتان اسطمبولى المكسوة بالبياضات فى الركن المقابل لباب الشقة كغرفة معيشة فى الصباح وغرفة زائدة للنوم فى المساء  حين تتحول الكنبتان لسريرين لأخواى الكبار فى الوقت ذاته .  غرفتا النوم تفتحان مباشرة على الصالة واحدة منهما للوالدان والأخرى لنا البنات الخمس ويواجهان الطبخ والحمام من الجهة الأخرى.  أما الفرندة أو البلكونة فهى تطل على الشارع وبعرض الشقة يمكن الخروج اليها من كلتا الغرفتين ورغم أنا كانت مشغولة دائما بالغسيل اليومى المعلق لينشف ( غسيل كوم لحم كما يقولون) الا أنها كانت ملاذى الدائم والوحيد حين ارغب فى  بعض الخصوصية فألجأ اليها واصنع فيها غرفة من الملايات لأنفرد بعيدا عن صخب وضجيج المنزل.  فكل شىء كان ملكية مشتركة فى منزلنا من السرير الى الدولاب الى حتى الملابس التى نتبادلها وتؤول دائما من الكبار الى الصغر باستثناء الأعياد.  كانا والدى حريصا على جلب ويا جديدا لك منا فى كل عيد.  وان لم يستطع تنشط أمى لشراء ما يلزم من أقمشة وتساعدها شقيقاتاى الكبيرتان فى صنع أزياء جديدة لنا.  وليلة العيد تجدنا نحيط بهم فى انتظار ملابسنا الجديدة التى تولد جميلة على أيديهم رغم بساطتها ونتغاضى على وجود بعض الأخطاء غير الملحوظة بها.
كان الحمام رعبى الأكبر، فقد كرهت دوما أن أدخله بمفردى وكانت أمى تظنه نوعا من الجين وكانت تصر على أن أدخل بمفردى فقد كبرت ولا وقت لديها لمثل ذلك  الدلع.  فأين لها الوقت الكافى التى يمكن أن تمنحه لكل منا فى يومها الشاق الطويل من كنس ومسح وترتيب وشراء الطلبات واعداد الطعام والحرس على استحمامنا ونظافتنا والاهتمام بأبى فى سويعاته القليلة بالمنزل.  كان يحزننى أنها لم تكن تحس أو تدرك رعبى الشديد من حفيف الغصون وتحركها لتحتك بشباك الحمام مع هديل الحمام المعشش فوق تلك الغصون لتصنع لى سيمفونية من الأشباح الوهمية فأصرخ جارية خارج الحمام حتى وان أدى ذلك الى خروجى عارية باكية طالبة أن تصحبنى ماما أو الشغالة قبل أن تأكلنى العفاريت.  نعم كانت عندنا أيضا شغالة ولا تسألنى وهل هناك مكان لشغالة مقيمة أيضا؟  نعم كانت تنام على مرتبة تفردها فى المساء فى أرضية  غرفتنا لأنه المكان الوحيد المتاح لها فى وسط عائلة من والدين ووابنان وخمس من البنات ولم يكن أخواى الآخران الأصغر قد أتوا بعد.  وحين يدركنى الخوف أو لا أستطيع النوم أتسلل للنوم فى أحضان شغالتنا على الأرض فوق المرتبة.
حين أصابنا أنا وأختاى - الأكبر منى والأصغر وكانت لم تكمل العامين- مرض الجديرى المائى ،كانت تفرش لنا أمى مرتبة فى أرضية المطبخ وتغطينا بالبطاطين الرمادية لأنه كان المكان الوحيد الذى تسطع فيه الشمس طوال النهار،  وحتى نكون فى حراستها ورعايتها وهى تصنع الطعام.  ما زلت أحس بالشرائط  تكبل يداى  حتى لا أحك جلدى من شدة الألم ورغم حرص الشغالة على مراقبتنا حتى لا نفك وثاقنا ،الا أن وجهى مازال يحمل بعض آثار لندبات من جراء الهرش حين أنجح فى افلات احدى يداى.  أذكر لسعة الدواء السائل الوردى البارد حين يلمس أجسادنا المحمومة فأرتعش رغم الغطاء والدفء وتزكمنى رائحته المميزة.  تتناوب جارتنا مع الشغالة استخدام الكمادات الباردة لتنزيل الحرارة و لاتستطيع أمى الإقتراب منا حتى لا تنتقل لها العدوى فقد كانت حاملا فى أحد أخوى الأصغر.  كانت أمى فى الحقيقة حريصة على صحتنا الجسدية ولكنها كانت أبعد ما يكون عن صحتنا النفسية.  لا اذكر أنها كانت تضمنى أو تدللنى الا نادرا.  فأين لها الوقت والجهد وهى سنة حامل فى طفل جديد وسنة أخرى ترضعه حتى تحمل؟!  أما التدليل فكان ينبوعا خاصا بأبى حين يتواجد فى سويعاته القليلة بالمنزل.  فرغم أنه كان يعمل فترتان بينهما راحة غداء فى المنزل الا أنه فى المساء ورغم تعبه الشديد يجد بعض الوقت ليدللنا ويقبلنا وكانت أمى ترى أنه سيفسدنا بهذا الفعل.
جيراننا فى المنزل الكبير من أصحاب الأملاك والموظفين الكبار فى الحكومة ومنهم صاجب المنزل عم لبيب أو لبيب بيه كما كانوا يلقبونه.  المنزل مكون من طوابق خمس بكل طابق شقتان أحداهما واسعة 7 غرف والأخرى 3 غرف.  كنا لا نستوعب لماذا بتعالى أطفالهم أحيانا علينا حتى أدركنا ان أبى تاجر وولهذا لا يرقى لمستوى جيرتهوهم ذوى المراكز وذوى الحيازات من العقارات والراضى الزراعية.  كان منزلنا الصغير يتزاحم فيه الأبناء فى غرفة أما منازل بعض جيراننا فلكل طفل غرفة  وفى الغالب يكونا طفلان فقط فى الأسرة وبينهما غرفة الخادم النوبى ليكون على مقربة منهما اذا ما احتاجاه ناهيك عن رفاهية وجود 3 حمامات يستعملون أى منها وقتما يشائون،  بينما نقف على باب حمامنا الوحيد وخاصة فى الصبح طابورا فى انتظار الدور.
يتراءى لى قماش الصالون الصغير فى ركن غرفة أمى مجرد كنبة و2 فوتي من القماش النبيتى المائل للبنى بنقشة أفغانية ولونه الخشبى كلون ثمرة البندق  وطاولة صغيرة من الرخام والخشب.  حين تأتى صديقات أمى فى زيارتهن الأسبوعية الصباحية لشرب القهوة يجلسن فيه ليثرثرن بعيدا عن فضول أذاننا للإستماع لأحاديث الكبار.  ولا يضايقهن وجود غرفة النوم لوالداى فى نفس المكان بل على العكس كن يستخدمن مرايا الدولاب للقياس والتضبيط حين تحيك لهم أمى بعض الثياب مجاملة منها بعد أن ياتين لها بالقماش اللازم.
عدد الأسرة فى غرفتنا الواسعة ثلاث بالإضافة الى الدولاب الكبير والذى بالكاد يسع أشيائنا جميعا نحن الولاد والبنات . كنا ننام كل اثنتين فى سرير وأحيانا ثلاث حين تزورنا احدى الجدات والتى تحتل سريرا بمفردها طوال اقامتهما والتى قد تطول لأسبوع أو أكثر.  فلابد من الذهاب لزيارة أولياء الله فى يوم والنزول للسوق لجلب المشتريات فى يوم آخر ، ثم استقبال الأقارب والجارات حين يعلمون بقدومهما فى ايام أخرى.   وقد يشمل أيضا الذهاب للمستشفى للكشف اذا ألم بهما أى مرض.  كنا نكره أن ننام فى أحضان أى منهما لأنهما كانتا تأتيان محملاتان برائحة القرية التى تزكم أنوفنا والتى نفوح رغما عنهما من ملابسهما.  وعلى كرهنا لتلك الرائحة الا أننا كنا نسعد بتلك الزيارت وما يصطحبانه لنا من أطايب الطعام:  الفطير المشلتت والزبد الفلاحى والقشدة والعسل علاوة على أشولة الدقيق و البطاطس والبصل والمحصولات الزراعية الأخرى من البقول والأرز.  وحين تأتى الزيارة وهى موسمية  من مرتين الى أربع فى العام ، تنشط أمى لتفرقة بعض منها على الجيران وتذهب احدانا - وكنت فى الغالب أحظى بهذا الشرف- بصحبة الشغالة لإيصالها للجارات. وغالبا ما نقابل بالحفاوة العارمة فى استقبالنا ، وحينها فقط كنت أحس ببعض المساواة والتعادل بيننا.  ومن العادات الجميلة التىقاربت أن تندثر الان ، ان تلك الأوعية والأطباق لا تعود  أبدا خاوية وانما ممتلئة بما لذ وطاب من صنع الجارات من الكحك والفطائروالكيك والجاتوه .  فكنا نحن الصغار نسعد فى المرتين فهذه الهدايا رداعلى زيارتنا كانت طلاسم بعيدة المدى بالنسبة لنا.  ورغم ان أمى طباخة ماهرة الا أن صناعة الحلوى عندنا كانت شيئا مختلفا تعتمد فى الأساس على أطباق الأرز باللبن والمهلبية وما شابه من أى شىء بسكر والسلام.
نذهب لللعب مع أطفال الجيران وكان معظمهم ذكور ليصدمنا بشدة سكون الغرف وجدرانها المتسعة الباردة هذا بالإضافة على أدبهم المفتعل وهم يوصونا بالحرص على المحافظة على ترتيب الغرفة أثناء اللعب.  ونحن ايضا كنا مؤدبون ولكن فى عفوية وكان بيتنا نظيفا رغم بساطة الأثاث ، لكنه لم يكن مرتبا ترتيب المسطرة كبيوت الجارات.  حين نتسلل لغرفة جلوس أى من الجارات نفاجأ بالبراويز المعلقة على الجدران والتى تحوى صورا لكبارالعائلة والجدود من بهوات وبشوات . نضحك ضحكات مكتومة على الشوارب المفتولة والنظرات الصارمة لتلك الشخصيات الأثرية كأننا فى زيارة لمتحف الأسرة.  وغالب ما تنفض وصلة اللعب بشجار لسبب ما بيننا،  فننسحب بهدوء غاضبينرغم اغراء الألعاب الكثيرة والتى كانت تمثل لنا كنز على بابا  ولا نعود الا بعد أن تنادى علينا أمهاتهم  لترجونا الذهاب اليهم ويعتذرون نيابة عن أولادهم.  فغاية ما كنا نملك من ألعاب هى عروسة نصنعها من القماش نحشوها قطنا ونضع على رأسها شعرا منخيوط الصوف أو أثا للعروسة مصنوع من غطيان قزاز الكازوزة.  أما لماذا كانوا فى حاجة لنا؟ فاظن أننا  كنا ندخل الدفء والسعادة فى تلك البيوت المتأنقة فى جمود. وأن أولادهم كانوا يشعرون بالوحدة أما نحن فصحبة والصحبة دائما ممتعة.   والأهم من كل ذلك اننا بنات، والأمهات غالبا يشتقن لخلفة البنات فيعوضونها فينا.  حتى جارتنا العروس كانت تأخذ أحدانا لتؤنس وحدتها حتى يعود الزوج من العمل. أذكرها وهى تسرح لى شعرى المتموج وكنت دائمة الإنتكاش فأستسلم لها رغم كرهى للتسريح لعطشى الداثم للإهتمام بى بصفة خاصة .  احساسى بأنى لست الكبرى ولا الصغرى ولا الأجمل بل مجرد فرد غير متميز فى العائلة.  كانت تداعبنى وتحضر لى البونبون والشيكولاتة ورغم انها كانت تجارة أبى وبالطبع كان  يحضر لنا منها الا أن نصيبنا بعد التفرقة علينا لا يبلغ ما كانت جارتنا تمنحنى اياه وحدى.  ليست طفاسة منىوالله ،  فوالداى كانا حريصان أن ننشأ عيوننا كما يقولون مليانة لكنه الإحتياج للإستئثار بالإهتمام والشعور بنقص العاطفة والحب الخاص وليس العام.
ان الأهل الذين ينجبون الكثير من الأولاد لا يدرون أنهم يجنون على أولادهم. وان أولادهم قد يصابون بالأحاسيس الداخلية بالحرمان سواءا كان العاطفى (وهو الأهم)  أوالمادى.  ورغم دخل ابى المعقول  والذى كان  يتساوى مع هؤلاء الموظفون أو يزيد الا أن كثرة العدد والمسؤليات كانت تكفى  فقط الضروريات والأساسيات على حساب الترفيه والرفاهية.  ولم يكن من الفائض للمستقبل لذا كان أبى يهتم جيدا بتعليمنا فقد كان يرى أن الميراث الحقيقى الذى سيتركه لنا.   وما كان يعوضنا عن كل المنغصات من ذلك الإزدحام والذى قد يصل الى حد الإختناق أحيانا ، هو التنعم والتدثر بدفء الأسرة الكبيرة ،   واللمة الضاحكة فى الفرح وحتى اللمة الباكية أحيانا فى الحزن. 
وصحيح القول بأنه ليس كل قسمة ضيزى... والله دائما معوضا ومخلفا.  رحم الله أمى وأبى..... اللهم آمين.

ليست هناك تعليقات: