كان نهارا شتويا مشمسا أغراها أن تصطحب جريدتها لتأخذ قهوة الصباح فى الشرفة. كعادتها ، تقرأ الجريدة من الخلف الى الأمام ، وليس كما يفعل معظم الناس والذين غالبا ما يبدأون بعناوين الصفحة الأولى. انتهت من الصفحة الأخيرة ثم اتجهت لقراءة البخت وصدق أو لا تصدق وبزاوية من عينها لمحت اسما على قمة نعى فى الصفحة المقابلة ولم تصدق!
انتفضت معتدلة! سقط فنجانها من يمناها لتمسك بالجريدة بيديها الاثنتين تتحقق من الاسم ، ثم تنزل سريعا بعينيها لتتأكد من باقى أسماء الأخوة والعائلة . نعم انه هو... هو أول لمسة ايد ، أول لهفة للمواعيد كما قال عبد الحليم فى أعز الناس. البرنس كما يطلق عليه أصدقائه. ووجدت نفسها تغوص فى دوامة من الحزن والذكريات معا.
تردها الدوامة الى سنوات الصبا حين اتى مع عائلته ليسكنوا فى العمارة التى أمامهم ، تفصلها عن عمارتهم بضعة أمتار وبوابة حديدية تكسوها شجرة الياسمين. شجرة الياسمين التى ماأن يأتى الغروب تودع الشمس بعطرها الفواح.
هى تسمع من صديقاتها قصص الحب المشتعلة بينهن وبين أقرانهن من الشبان فى المدرسة المجاورة ، ولم يكن لديها ما تحكيه. استرعى انتباهها بجلوسه على مكتبه للمذاكرة فى مواجهة نافذة غرفته - المفتوحة دائما - مترقبا ظهورها فى الشرفة ليمسح على شعره بيده مرسلا السلام اليها. ترقبه من خلف الشيش حتى لا يراها مترقبا بالساعات اشراقتها فى البلكونة كما كتب اليها فى أشعاره بعد ذلك. أو ينتظر مع أصدقائه على الناصية المقابلة للمنزل لمرورها ليراها ، وكانت تتجاهله متعمدة ليس عن دلال ولكن عن حيرة فلم تكن تدرى ماذا تفعل؟
وحين أخبرت احدى زميلتها العتيدات فى التواصل، قالت لها ردى عليه بابتسامة أو بايماءة من رأسك . ومضت شهور قضاها الاثنان فى فى السلام بالاشارة والرد بالابتسام حتى وجدت أنه يقضى وقته ساهما وعيناه مثبتتان على شرفتها ويهدر وقته ولا يذاكر . كان فى الثانوية العامة ويسبقها بسنتين فقررت أن ترسل له كلمة لتحثه على المذاكرة. كتبت: "دعك منى الآن وانتبه لمذاكرتك" فى ورقة صغيرة ووقفت فى الشرفة وانتظرت ، حتى رفع بصره اليها فقد كان يسكن فى الدور الثانى أما هى فكانت فى الدور الرابع ثم ألقت بالورقة مسرعة من الشرفة لتسقط فى أغصان شجرة الياسمين وتتعلق بها. ومن وراء الشيش ترقبه يستدعى الخادم النوبى ويشير له على مكان الورقة ليهرع هذا يتعلق بأغصان الياسمين يقطف الورقة ويطير بها اليه. راقبته وهو يقرأها ويعيد قراءتها ثم يضعها بداخل كتابه ، يخرجها ويعيد قراءتها حتى ملت من وقفتها وهو لم يمل.
وحين أخبرت احدى زميلتها العتيدات فى التواصل، قالت لها ردى عليه بابتسامة أو بايماءة من رأسك . ومضت شهور قضاها الاثنان فى فى السلام بالاشارة والرد بالابتسام حتى وجدت أنه يقضى وقته ساهما وعيناه مثبتتان على شرفتها ويهدر وقته ولا يذاكر . كان فى الثانوية العامة ويسبقها بسنتين فقررت أن ترسل له كلمة لتحثه على المذاكرة. كتبت: "دعك منى الآن وانتبه لمذاكرتك" فى ورقة صغيرة ووقفت فى الشرفة وانتظرت ، حتى رفع بصره اليها فقد كان يسكن فى الدور الثانى أما هى فكانت فى الدور الرابع ثم ألقت بالورقة مسرعة من الشرفة لتسقط فى أغصان شجرة الياسمين وتتعلق بها. ومن وراء الشيش ترقبه يستدعى الخادم النوبى ويشير له على مكان الورقة ليهرع هذا يتعلق بأغصان الياسمين يقطف الورقة ويطير بها اليه. راقبته وهو يقرأها ويعيد قراءتها ثم يضعها بداخل كتابه ، يخرجها ويعيد قراءتها حتى ملت من وقفتها وهو لم يمل.
كم من المرات ألقت فى ص. ب.: الياسمين برسالة له ليهرع خادمهم النوبى النحيل ليقوم بالبحث بين الأغصان عن مكان استقرار الخطاب ليعود به اليه مسرعا . أما الرد فكان يضعه لها فى فتحة فى الجدار فى ركن خفى تحت الشجرة لتستطيع بقصر قامتها أن تطوله. كانت رسالات غاية فى السذاجة لا تزيد عن جمليتن أو ثلاث ومعظمها توصيات بالمذاكرة ليرد عليها بقصيدة شعر يكتبها لها.
كانت الاشارة بينهما حين يريد استدعائها للشرفة ليراها أن يدير أغنية لعبد الحليم بصوت عال ولا تخرج غالبا عن أغنيتين سجلهما خصيصا لأجل هذا الغرض (أعز الناس) و(بحبها).
رصيدها من الثقة فى ذاتها قليلا . لم تظن أبدا أنها جميلة و لم تكن أبدا جريئة كقريناتها. كانت عادية فى مظهرها تجمع شعرها ذيل حصان بشريط حريرى دون بهرجة. زى المدرسة كان يقف تحت الركبة كتعليمات أبيها فى وقت كانت معظم البنات يتبارين فى الارتفاع به من المينى للميكرو. وكانت مع أبيها فمن رأيها أن شكل الركبة عموما يفتقر الى الجمال فهى فى النهاية مجرد عظمة بارزة يجب أن تختفى تحت الملابس. خطواتها قصيرة ولكن رشيقة ، تمشى بسرعة كأن هناك من يطاردها تحتضن فى رقة حقيبة المدرسة كما كانت الموضة فى ذلك الوقت. ببساطة لم تحس أبدا أنها ملفتة أو مميزة على الرغم من مخالفة زميلاتها لرأيها هذا. أما هو البرنس كان طويلا رشيقا شعره بنى يميل للاصفرار، وسيما لا يعيبه سوى حول خفيف لحظته فى احدى عينيه مما منعه من مواجهتها بنظره اذا ما التقيا صدفة فى الشارع، أو فى مدخل منزليهما المتشاركان فى نفس البوابة فهو نادرا ما يرفع وجهه اليها . لا يرتدى أبدا تى شيرت بل دائما (فورمل) أو على الأقل قميص وبنطلون ، ويبدو دائما أنيقا فى بساطة.
دخول التليفون لمنزلها كان حدثا مهما وكان الوسيلة الأسرع فى أن يبثها مشاعره بعد ذلك. كانت تنتهز نوم الأسرة فى القيلولة لتسحبه الى غرفة الصالون وتطلب رقمه وتغلق الخط ، ثم تعود بعد ثوان لتطلبه مرة أخرى. كانت تلك هى الاشارة والتى اتفقا عليها لتضمن أن يرد هو وليس أحدا من اخوته ، فقد كان صعبا عليها أن تميز صوته من بينهم . و هكذا تم اغلاق صندق البوستة فى شجرة الياسمين رسميا.
دخول التليفون لمنزلها كان حدثا مهما وكان الوسيلة الأسرع فى أن يبثها مشاعره بعد ذلك. كانت تنتهز نوم الأسرة فى القيلولة لتسحبه الى غرفة الصالون وتطلب رقمه وتغلق الخط ، ثم تعود بعد ثوان لتطلبه مرة أخرى. كانت تلك هى الاشارة والتى اتفقا عليها لتضمن أن يرد هو وليس أحدا من اخوته ، فقد كان صعبا عليها أن تميز صوته من بينهم . و هكذا تم اغلاق صندق البوستة فى شجرة الياسمين رسميا.
كل حواراتهما دارت حول ما يحدث فى المدرسة ، تحكى له عن زميلاتها والمدرسين ويحكى لها عما يقرأه من كتب ويرشح لها كتبا معينة يكون قد قرأها وأعجبته لتقرأها . لم تقل له أبدا "أحبك" رغم أنه كان يقولها لها قبل أن يغلق الخط فى نهاية كل مكالمة و دون انتظار حتى لردها عليه. وتسأل نفسها: هل أحبته حقا؟ حين تفكر فى ذلك الآن تجد انه لم يكن حبا! قد يكون اعجابا! يجوز أنها أحبت فيه اهتمامه بها ! أحبت الحالة التى أدخلها فيها! أحبت حالة الحب التى توهمتها لتعبر بها مرحلة المراهقة! أحبت أن تجد ما تحكيه لزميلاتها! أحبت قصاصات أشعاره المعطرة بعطر الياسمين.
ومين ينسى شعاع أول شرارة حب وحلاوتها ولمسة ايد ولا المواعيد ولهفتها.....ونظرة من بعيد لبعيد تقول حبيت ....ورمش يقول غلبنى الحب غلبنى ...ولا ننسى ومين يقدر فى يوم ينسى.... أعز الناس حبايبنا!
كان أصغر اخوته - الذكور جميعا - وقد سماهم أبيهم الأزهرى باسماء مزدوجة تبدأ (بما حمد) أى أحمد أو محمد أو محمود الى جانب الاسم الثانى. وبما أن اسمه أحمد فؤاد فقد أطلق عليه أصدقائه لقب البرنس تيمنا بلقب ابن الملك فاروق والذى ولد معه فى نفس العام . نجح فى الثانوية العامة والتحق بكلية طب الأسنان.
فاجأ والدها أسرتها بانتقالهم لسكن آخر أكبر فى شارع آخر فى نفس الحى. من وقتها صار التليفون هو وسيلتهما الوحيدة فى التواصل، فلم تكن لديها الجرأة أن تقابله فى أى مكان. و بعد دخولها الجامعة ، صار لها زملاء وصار من الطبيعى أن يطلبها تليفونيا ، وبالفعل كانت تعتبره زميلا عزيزا عليها بأخلاقه النبيلة. تباعدت اتصالاتهما التليفونية حتى انقطعت دون اتفاق أو اختلاف بعد أن انتقل البرنس وعائلته للسكن فى مكان آخر اثر تهدم منزلهم بسبب الزلزال ، ولم تسعى لمعرفة رقم تليفونه الجديد.
فاجأها صوته مواسيا فى مكالمة وحيدة وبعد انقطاع دام سنوات، فرقم تليفون منزل العائلة والذى عادت اليه بعد طلاقها لم يتغير ، وانما هى التى تغيرت كثيرا. كان من رأى صديقتها أن تنتهز الفرصة وترد له مكالمته لتعيد ما كان ولكنها لم تفعل . فما كان .... قد كان! وسواء أكان اعجابا متبادللا! أم حب من طرف واحد ... لا يهم لأنها كانت قد زهدت الحب وسنينه.
علمت من صديقتها أن البرنس تزوج من جارة أخرى وكأن الهيام بالجارات عشقه الأبدى ، و أنها أنجبت له طفلين. وانقطعت أخباره عنها تماما ، فلقد سافرت للعمل خارج البلاد لسنوات وعادت وهى كما هى امرأة وحيدة تسلى وقتها بقراءة الكتب والمجلات والجرائد. وها هى الجريدة بين يديها تفيق من ذكرياتها على صدمة نعيه فى صفحة الوفيات........ وتنهدت فى أسى فهو مازال فى عقده الرابع وليست هناك اشارة فى النعى على انها حادثة! فكيف؟ أكان مريضا؟ وماذا عن ولديه وزوجته؟ أسئلة دارت فى رأسها ولن تعرف أبدا لها إجابة وهمست: رحمك الله ايها البرنس .
ولا تدرى اخيل لها أم أن عطر الياسمين قد فاح فى الشرفة من حولها حقا، شجرة الياسمين التى كانت فى وقت ما هى : ص. ب. أى صندوق بريد خاص بها وبالبرنس جارها. وتنبهت الى ما كتب فى نهاية النعى ... (ولاعزاء للسيدات)، ووجدت نفسها تردد فى حزن وأسى: "ولا عزاء أيضا لشجرة الياسمين !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق