الأربعاء، 15 يوليو 2009

صباح القشطة من حكر أبو دومة

فى طريق عودتها من عملها الى المنزل مستخدمة كورنيش النيل من المهندسين الى شبرا، كانت تجبر على تغيير مسارها فى الشهور التى تسبق رمضان أو على الأدق بدءا من شهر رجب وحتى الأسبوع الأخير من رمضان. كانت تجبر على الانعطاف من الشارع الذى يسبق محطة المياه بدلا من الدخول من شارع روض الفرج. فشارع روض الفرج يغلق تماما أسفل الكوبرى وعلى جانبيه فى هذه الشهور الثلاث بواسطة تجار البلح ويمتد الزحام ليغلق طريق الكورنيش تماما مما جعل المحافظة تنقل سوق البلح لسوق العبور خارج العاصمة وحسنا فعلت، فهذا الازدحام الخانق والذى كان يمتد لأكثر من ساعة لعبور هذه المنطقة والتى فى الأحوال العادية لا تأخذ أكثر من 5 دقائق كان يحث أصحاب السيارات والتاكسيات للبحث عن طريق آخر للهروب مرغمين وكان أن اكتشفت هذا الطريق الخلفى والمتاخم لمنطقة سكنية تدعى حكر أبو دومة. وهذا الطريق الخلفى يوصل لدوران شبرا دون المرور بمنطقة الغلال بروض الفرج.
والازدحام فى شارع روض الفرج أسفل الكوبرى يشتد خلال النهار وحتى منتصف الليل فيما بين تنزيل البلح من اللوريات الكبيرة ونقله لتشوينه فى المخازن المفتوحة أو بين نقله الى العربات الصغيرة النصف أو الربع نقل بعد بيعه الى التجارالنصف جملة والذين يأتون من كل أنحاء العاصمة بل وأيضا من المحافظات الأخرى . كما كان هناك كذلك البيع القطاعى بواسطة التجار الصغار والذين يرصون البلح فى قفف من الخوص على الدكك الخشبية أمام المحلات أو فى الأماكن المسورة بقماش الخيام والتى تقام على الرصيف ثم تمتد الى نهر الطريق ذاته فى ذروة الموسم. وفى كل عام يبتكرالبائعين الأسماء الجديدة للتدليل على أنواع البلح المختلفة لترويجه بعيدة تماما عن أنواعه الأصلية. بدءا من بلح ليلى علوى الى بلح هيفاء وحتى الشبح والبودرة وانتهاءا بشيمون وشعبولا.
كانت تنعطف من الكورنيش يمينا فى هذا الشارع والذى يقع بجوار محطة مياه روض الفرج ، لتمر بالشارع الخلفى للمحطة حتى تصل الى شارع أبو الفرج والذى يقع على ناصيته مبنى الدونبوسكو. والدونبوسكو لمن لا يعرفه هو مدرسة صناعية أقامتها الحكومة الايطالية فى حى شبرا ليلتحق بها أبنائه الذين أنهوا الشهادة الاعدادية. ويدرس فيه الطلاب الى جانب اللغة العربية والايطالية دروس نظرية وعملية فى الخراطة والكهرباء والميكانيكا وغيرها من الأقسام ليتخرجوا اسطوات فى الحرفة التى يختارونها ومن يتفوق منهم فى نهاية الأعوام الخمسة يكون من نصيبه بعثة الى ايطاليا لتكملة الدراسة وفى الغالب لا يعود منها الطلاب ولكن يستقرون فى المدن الايطالية بعيدا عن العاصمة روما حتى يحصلن على الجنسية والاقامة سواء بالعمل أو بالزواج من ايطالية. وللحق فخريج الدو نبوسكو هو أسطى ماهر فى صنعته (ايديه تتلف فى حرير) تتلقفه الشركات - المتخمة بالموظفين الجالسين على المكاتب الادارية دون عمل حقيقى- للعمل فيها بمرتبات مغرية لشطارتهم وندرتهم، أو هكذا كانوا فى ذلك الوقت .

يقع على الجانب الآخر من الدونبوسكو مستشفى الرمد الشهير بمبناه من الطوب الأحمر الداكن ، ومشهد الصباح المتكرر فى ملل دون تغيير كان لطوابير الأمهات حاملى الأطفال فى كل صباح انتظارا لقطع التذاكر والدخول لمعالجة عيون أولئك الأطفال والتى غالبا ما تكون وصلت لحالة حرجة بعد طول اهمال أو معالجة سطحية. لاتتذكر صورة المستشفى دون أن يقفز الى ذهنها هذا الطابور من الأمهات حاملات الأطفال وأحيانا ساحبات أطفال أخرى ، ورغم تغير مريدات الطابور فى كل يوم الا أن الوجوه تتشابه وكذلك الملابس من جلباب أسود وطرحة أيضا غالبا سوداء كأنه زى رسمى تكاتف الفقر والمستشفى فى فرضه عليهن.

والشارع الذى تجبر هى وغيرها على السير فيه فى الشهور الثلاث ينحنى الى شارع آخر الى اليسار ليوازى شارع الكورنيش. وفيما بين الشارعين تقع منطقة حكر أبو دومة. وحكر أبو دومة منطقة شعبية لها مدخل من ناحية الكورنيش وآخر من هذا الشارع الموازى له ( لا تتذكر اسمه) ، وينبثق من الكورنيش وهذا الشارع ممران يستعمل كل منهما كمدخل وأيضا مخرج للمنطقة بأسرها. أما فى الداخل فحدث ولا حرج. واستخدام كلمة مدخل مقصودا هنا لأنه ليس شارعا أو حارة أو عطفة أو حتى زقاقا ، انما هو ممر يسمح بالكاد لمرور شخصين معا فى نفس الاتجاه أو فى عكسه بالكاد دون أن يتلاحم كتفيهما. وهذا الممر يتفرع الى ممرات أخرى اضيق غالبا أو أوسع نادرا ليكون شبكة عنكبوتية من الممرات التى تصطف على جانبيها أو جانبها الواحد أحيانا ما يمكن أن يطلق عليه منازل تجاوزا، فالحقيقة أن أصل كل منزل ذو المساحة الضيقة والتى لا تزيد فى أغلبها عن 20 مترا، كان عشة من الصفيح ثم أقيمت لها جدرانا من الطوب ، وغالبا ما تتكون من صالة بداخلها غرفة وحمام (ان وجد) . أما المطبخ فهو ركن فى الصالة الصغيرة ترص فيه الأوانى وحلل الطعام على ترابيزة بجوارالبوتاجاز، وتوجد الثلاجة الى جوار التليفزيون فى مواجهة الكنبة البلدية ذات الكسوة المنقوشة بالورود تتوزع عليها المساند المحشوة بالقطن أو التبن والقش. فى الغرفة الداخلية المخصصة للنوم يوجد سريروحيد لرب الأسرة أو كنبة بلدية، وقد يحتل ركنا من أركان الغرفة دولابا للملابس أو تجد صفا من المسامير على الحائط خلف باب الحجرة وفى الصالة لتعليقها عليها، وعلى الأرض حصيرة أو كليم صوف لنوم باقى العائلة عليه.
مع توافد الأبناء وكثرتهم ، يتم اضافة دورا ثانيا وأحيانا ثالثا يشتركون فيه مع عشش الطيور وغية الحمام كل ذلك دون ما أساسات يقوم عليها ذلك المنزل مهما علا. والذى يمنع تلك المنازل من السقوط رغم عدم وجود أساس وكثرة الشقوق والشروخ فى حوائطها وجدرانها هو التحامها والتصاقها ببعضها البعض فهى تقف كتلة واحدة من البناء العشوائى تشقها ممرات. الخوف عند أهل الحكر ينحصر فقط فى أن تقوم حريقة لا قدر الله لأنه من المستحيل أن تستطيع عربات الاطفاء الدخول الى الحكر. واذا حدث يتكاتف الجيران لاطفائها بالتراب أو الماء يصاحبهم لطف من الله قبل أن تمتد وتتسع. أما فى حالة الحاجة الى الاسعاف فكانت تأتى السيارة لتقف على شارع الكورنيش ويتطوع الجميع فى ايصال المريض اليها بحمله أوبالاستعانة بمحفة الاسعاف و الجرى بها فى الممرات أو بنقلها عبر الأسطح المتلاصقة أيهما أقرب وأسرع.

ساكنى المنطقة من حرفين ليسوا بالطبع من خريجى الدونبوسكو ، ورغم التجاور فى المكان الا انهم لم يسمعوا عنه. لكنهم أيضا اسطوات صنعة بالمران الشاق منذ الطفولة. نزح أكثرهم فى الستينات أو قبلها بقليل من قرى الدلتا القريبة للعمل ثم الاستقرار بأسرهم فى هذه البقعة اساحرة من العاصمة ، فهم يسكنون على النيل . لا يعلم أحد من هو تحديدا أبو دومة والذى سمى الحكر على اسمه؟ والحكر هو أرض يتركها صاحبها صدقة جارية تحت ادارة الأوقاف . هناك من يقول ان (أبو دومة) اسم لولى من أولياء الله الصالحين ، وهناك من يؤكد أنه لقب الباشا صاحب الأرض والذى مات دون وريث وتركها للأوقاف تديرها لينتهز الحارس عليها الفرصة ويؤجرها من الباطن دون أوراق رسمية الى من يريد السكن الرخيص فى غفلة أو تغافل من الوزراة. ثم توافد اليها كمعظم الأحياء العشوائية ساكنيها فأقاموا العشش المتناثرة والتى سرعان ما التحمت ببعضها دون تخطيط . والمنطقة ليس بها صرف صحى بل تعتمد على الطرنشات ، أما المياه التى يستخدمونها فى معيشتهم فكانت تمدهم بها محطة مياه روض الفرج المجاورة فى صورة حنفية عمومية تقع فى الجانب الخلفى للمنطقة أمر بها لهم أحد رؤساء تلك المحطة بعد توسل من السكان. وكان لا يوجد بها كهرباء حتى مؤخرا وأظن أن المياه والكهرباء الرسمية قد مدتا اليها منذ سنوات قليلة بعد ما كانوا من قبل يختلسون الانارة من عواميد النورالمطفأة دائما بالشارع الرئيسى.

وقد يتساءل البعض وكيف عرفت كل هذا عن تلك المنطقة، والاجابة أننى دخلتها دون اختيار لعدة أيام بتكليف من الخدمة العامة لعمل بحث حالة لأحد قاطنيه بعد انتهاء دراستى الجامعية. وغادرت الحكر وأنا أحمل فى صدرى التعاطف والمحبة لأهلها والكثير من الإشفاق عليهم من ظروف المعيشة الصعبة التى يحيونها فيه. شدتنى الحياة البسيطة بها فقاطنيه من السكان ليسوا بفقراء ولكنهم أرزقية، يعنى يعتمدون على اليومية التى يتقاضونها مقابل عملهم والذى قد يتصل أياما وينقطع أخرى برغبتهم أحيانا للكسل أو بالرغم منهم أحيانا للمرض، لو لعدم وجود سبوبة أو زبون. وهم كسيبة والدليل على ذلك ما يوجد في المنازل من أجهزة كهربائية من تليفزين وثلاجة وغسالة يدوية. وفوق كل سطح بجوارغية الحمام مباشرة يعلو ايريال التلفزيون والذى استبدل بالدش مؤخرا. ومما رصدته هناك أن غسل الملابس تحديدا هو السبب الرئيسى لقيام الشجار بين الجارات. فمن أرادت مثلا أن تغسل ملابس عائلتها ، تسحب غسالتها فى الممر أمام المنزل حيث المكان أكثر اتساعا من الداخل وتبدأ فى ملئها بالمياه والصابون المبشور، ثم تضع الملابس وتدير الغسالة مرة بعد أخرى. وبعد أن تنتهى تفرغ المياه المتخلفة من الغسيل فى الممر الترابى فيتحول الى ممر طينى أو تسرح المياه لتدخل منزل الجيران، وتخرج الجارة لتعتب عليها أولا ثم يتحول العتاب اذا لم تراع الخواطر الى خناقة حامية بين الجارتين وسرعان ما تنضم أخريات لكل فريق : منهن من يهدأن النفوس ، ومنهن من ينتهزن الفرصة للثأر من خناقة أخرى سابقة لم تنته بانتصار أو اعتذار. وتتعالى الأصوات وتختلط بصياح الدجاج ونباح الكلاب ومأمأة المعيز والخراف ليكونوا جميعا أوركسترا تعزف سمفونية من الضجيج والصخب تهدأ رويدا بعد أن يتعب الأطراف المشتركة فى العزف لتنتهى باصرار المجموعات على أن تقبل صاحبتى الخناقة احداهن رأس الأخرى، والتى قد تقبل الاعتذار أو لا تقبله، أو خروج أحد الرجال والذى يتصادف وجوده لزجرهن فتنفض الجارات كل الى مواصلة ما تفعله فى منزلها أو خارجه . المسافات القليلة فى الممرات تسمح برؤية الخارج لكل ما ومن فى الداخل بسهولة ودون خصوصية . وبالرغم من بساطة أحوال السكان الا أنهم حريصون على النظافة خاصة من يسكن منهم فى الواجهة مقابلا لشارع الكورنيش.

الكل هناك رغم المشاجرات الاعتيادية الشبه يومية عائلة واحدة كبيرة، تتضافر فى الشدة والفرح. فى الصباح يرتفع المذياع و(يا صباح الخير ياللى معانا) لأم كلثوم مع اندفاع البنات والسيدات الى حنفية المياه اليتيمة لملء الجرادل والجراكن لاستخدامها فى الاستحمام أو اعداد الطعام والشرب الا أنه لا يمنع أيضا من قيام بعض المشاجرات على الأولوية فى ملء الأوانى المحمولة على الرؤوس والتى قد لا تكون بأولوية الحضور ولكن أحيانا بمداهنة المسؤول عن صيانة الحنفية بالكلام الناعم أوغمزه من آن لآخر بحتة بسبوسة أو ثمرة فاكهة. وبعد الافطار المتأخر، وقبل منتصف النهار يخرج
الرجال الى أشغالهم كخروج النحل من الخلية تصحبهم السلامة ، يتبادلون الاصطباحة المتنوعة من صباح الفل وصباح الورد الى صباح القشطة واللبن الحليب وصباحين وحتة.... وبعد العصرتفوح روائح الطعام وطشة تقلية الثوم للباذنجان والفلفل أو للملوخية فى أثناء اعداد الغداء والذى يكون بعد عودة رب الأسرة عند الغروب أو بعده. ويختتم اليوم فى سهرة المساء أيضا على صوت أم كلثوم وأغنية (أنا وحبيبى يا نيل) أو (ذكريات) حين تخرج العائلات لنزهتهم اليومية من الحيز الضيق الخانق لشم الهواء على الكورنيش، فترص الكراسى للرجال على الرصيف و تفرد الأحصرة لتضم الجارات يجلسون على الأرض فى مواجهة النيل، يقضون سهرتهم فى الحديث و شى الذرة وعمل الشاى وقزقزة الترمس واللب وشد الجوزة وخلافه. وعلى مقربة منهم على الرصيف الفسيح تلعب البنات نط الحبل والأولاد الكرة الشراب.

وما بين الصباح والمساء يعيش فى حكر أبو دومة ناس بشوشة الوجه ... بيضاء القلب ، راضية بقليلها تحمد الله على اللقمة التى تجىء بعرق الجبين ، يستعينون ويستعيذون بالله، ويتكلون أيضا على الله لكنهم لا يتواكلون عليه كل ذلك بفطرة وتلقائية . يعرفون العيب والأصول لا يمتون بصلة لعشوائيات السينما مثل حين ميسرة أو غيره من الأفلام.
ناس كل رجائهم أن يرزقهم الله فى الغد ما يكفى أولادهم من قوت بالحلال وعرق الجبين و كلهم ثقة فى أن الله لن يردهم مخذولين بل وسيعاملهم برحمته قبل عدله حتى وان كانوا لا يواظبون على الصلاة فى مواعيدها. لم أرى مثلهم فى الكرم فلم أدق عندهم بابا الا وضايفنى أهله أنا وزميلتى على ما يتوفر فى المنزل من شاى وحلوى أو فاكهة.

حكر أبو دومة موجة صاخبة من البشر على شاطىء النيل الهادىء الأمواج، اكتشفت الحكومة مؤخرا أنها بؤرة عشوائية يجب أن تستأصل من واجهة الكورنيش، وسيتم نقل سكانها بعيدا على طريقة أنا لا أكذب ولكنى أتجمل، وستسترد الأرض لبيعها للمستثمرين الذين يقدرون على دفع مهرها الغالى ..... وصباحكم قشطة ان شاء الله!

ليست هناك تعليقات: