الخميس، 2 يوليو 2009

فايزة وعبد الحليم ...... والدخلة البلدى

فايزة ، هى احدى شغالاتنا والتى ورد علينا منهن الكثيرات ، فى سن 8 سنوات جاءت لنا من البلدة لتتولى أمى تربيتها معنا ،و بعد كورس النظافة الشخصية والهدوم الجديدة والأكل الكويس كان لا يميزها عنى وعن اخوتى سوى المنديل على الرأس والسمار الجميل لبشرتها. كنت رفيقة دائمة لها لاحضار المشتريات من السوق وكانت تكبرنى بسنوات بل فى الحقيقة أنى وعيت على البيت لقيتها فيه ، فايزة كانت تحب فى فترة مراهقتها عبد الحليم موت، وأذكر الخناقة التى قامت بينها وبين ماما حين حرقت حلة البامية على النار فلقد سهوت عنها وذهبت تفتح الراديو على عبد الحليم بعد أن سمعته من مطبخ الجيران ونسيت الحلة على النار لتتلسع الحلة وتضيع الوحبة الرئيسية للغذاء بينما هى لازقة جنب الراديو، كان يعاكسها فى الرايحة والجاية المكوجى وصبى البقال والعجلاتى وهى تبتسم وترد" سم كده" . فايزة كانت تحرضنى على الكذب مرة واحدة فى أول كل شهر على أمى والادعاء أن بقال التموين "كان زاحمة موت والله يا ستى حتى اسألى الست الصغيرة"حتى ندخل سينما شبرا بالاس ونستمتع بفيلم من أفلام عبد الحليم المعروضة سواء كان الفيلم قديما أو جديدا ، وكانت تدفع لى تذكرتى أيضا من مصروفها حتى تضمن كتمانى للسر.

فايزة كانت تحسد نا عليها الجارات " ما شاء الله البت دى ما بتتهدش، طول النهار بتبرم فى الشقة" وفايزة كانت كده فعلا ما شاء الله صحة وعافية . فهى تقوم بغسيل ملابس الأسرة مرتين فى الأسبوع قبل ظهور الغسالة الكهربا طبعا وكانت تقضى يوم الغسيل - متعتها الكبرى - كله على الطشت فى الحمام وفوق كرسى خشبى يعلو بضعة ستنيمترات عن الأرض تجلس ساعات تنتقل من دعك وبرش وغلية فى الباستيليا للملابس البيضاء الى تزهيرو شطف وعصر من قروانة لطشت وعلى أنغام وش البوابير كانت تغنى أغانى عبد الحليم ، وكنت أحيانا أجلس معها لتعطينى قروانة صغيرة وتضع لى أى شىء صغير لأشاركها متعتها فى الغسيل، كان النشير متعة أخرى لها على الأحبال الممتدة بطول البلكونة الرئيسة الكبيرة ، تحرص على رص الملايات فى الحبل الخارجى الأول ،ثم الفوط ثم ملابس النوم والخروج ثم الملابس الداخلية فى الداخل، وبعد آذان العصر تحمر لب البطيخ أو الشمام وتجلس معى فى البلكونة فى الغروب تراقب هفهفة الغسيل وتقلبه بين الحين والآخر فى زهوة حقيقية مع قزقزة اللب.

أما يوم التنظيف فده يوم آخر لوحده لازم الفرش كله يطلع فى الشمس حتى المراتب ، وتتمسح الشقة كلها وتندعك الأرض بفرشة البلاط مع الماء والصابون أو اضافة الفنيك أو الجاز وتتغير كل ملايات السراير وفرش الصالون والأنتريه، وتتزعف الأسقف وتتمسع البلكونا ت وتتنفض الشيابيك ويتمسح قزازها حتى السلم لغاية بسطة الجيران اللى تحت . ولا تستريح حتى تبرق الشقة برق وتعيد ترتيب كل شىء فى مكانه مرة أخرى. كل ده على نغمات أغانى عبد الحليم من الراديو تبحث عنها زى المجنونة من محطة لمحطة وتتابعه فى الغناء بمرح صادق طول النهار. كنا نطلق عليها لنغيظها "مجنونة عبد الحليم".

كانت فايزة تنام معنا نحن البنات فى غرفتنا ليس على الأرض ولكن على كنبة وهى نظيفة جدا ، تستحم فى اليوم مرتين صباحا ومساءا وكانت تحرص على وضع المنديلعلى رأسها ليس لتعلن عن صفتها بيننا نحن البنات، ولا لأن أمى تلزمها بهذا ولكن لأن شعرها كان أكرت جدا، وكان الإستثناء الوحيد لرفع المنديل هو يوم العيد عندما تذهب للكوافير كى يفرده لها ، كانت فستان العيد والذى تصنعه لها أمى مع فساتيننا يكوى وتلبس الشبشب القزاز أبو وردة وكعب كوباية وتصحبنا أنا واختى الصغيرة فى أبهى زينة لنا للنزهة فى وغالبا ما تحتوى الفسحة على الدخول للسينما فى وسط البلد وأكل الأيس كريم من جروبى ثم العودة بالترام أو الأتوبيس.

فايزة كبرت عندنا وكان لازم تتجوز لما زاد عمرها على ال 18 على رغبة أهلها ، وأتاها عدلها فى صورة صول فى البوليس أو الجيش لا أذكر الآن ، طويل وعريض وبشنب شعره بنى ناعم منحسر عن قورة عريضة وينذر بصلعة مبكرة، وعيناه عسليتان مائلتان للخضرة وهى على النقيض قصيرة بس مدملكة ووجهها صغير فيه الكثير من الجاذبية، وتقاطيعها أصغر خاصة تميزها عيونها السوداء وأنفها المفلطح قليلا . اتى العريس مع أهله ليراها فى منزلنا ولأول مرة لا تقدم فايزة التحية للضيوف فقد جلست مع أمى وأبى وخالها وأمها - فقد كانت يتيمة - فى الصالون وقمنا نحن البنات بكل واجب الضيافة، تم القبول والاتفاق على المهر والشبكة وموعد الفرح والدخلة فى الصيف كما قالت أمى " بعد الولاد ما ياخدوا الأجازة" ولحين تقوم أمى بتجهيزها بعد شراء الشبكة وهدية فوقها من أبى وأيضا ليحين استيراد شغالة أخرى صغيرة لتتولى فايزة تدريبها قبل الرحيل الى منزلها كما تعودت أمى.

ماما كانت ترسل جزءا من راتب فايزة لأهلها وجزء ثانى صغير تعطيه لها مصروف والجزء الثالث تحوشه لها لجهازها ده طبعا غير الكسوة ولبس العيد، ومن تحويشها وزيادة عليه من بابا ومن اخوتى الكبار قامت ماما مع فايزة برحلات كل جمعة لأسواق الغورية والعتبة وحتى شارع فؤاد لإختيار متاعها الجديد وأحيانا كانا يصطحبانى معهما لأتفرج بعد الحاح منى ووعد بأنى مش حاضايقهم بل حاساعدهم فى الشيل، وتفرغت أمى قبل الفرح بشهر لتفصيل شوار العروسة بمساعدة أختى الكبرى من فساتين وقمصان نوم وخلافه، وكانت متعة لنا نحن الصغار فى المشاركة بتركيب الزراير أو اللفق أو حتى لضم الإبرة لماما كل حسب سنه ، ثم شراء هدايا الزواج الصغيرة لها كقلم أحمر (روج) أو قلم كحل أو حق بودرة أو حق آخر للحمرة من مصروفنا الخاص .

وقبل الفرح ذهبت أنا وفايزة مع ماما لمنزل العريس – لا أذكر أين؟ - لكنه كان فى منطقة شعبية قد تكون زينهم ، المهم ذهبت مع أمى والعروس لفرش غرفتها فى منزل أهل الزوج وهم جميعا يعيشون فيه كل أخ أو أخت مع زوجته أو زوجها فى طابق ، الا أن العروس سوف تقيم مع الأم فى نفس الشقة – شقة العائلة - بعد تخصيص حجرة نوم لهما، أذكر السرير النحاس الذى اشتراه لها العريس أبو عمدان وماما تفرش علية طقم الملايات التى شاركنا جميعا نحن البنات فى تطريزها و الدرابية فوقه و التى أوصت عليها أمى صاحبتها الفلسطينية لتحضرها لفايزة من غزة حين ذهبت لزيارة أهلها، والدولاب أبو 4 ضرف ونحن نرص لها ملابسها على أرففه ونعلق لها فساتيها وحماتها تتفرج متعجبة " يا حلاوة! ايه كل ده ! ده ولا لبس البرنسيسات" ، وأمى ترد بامتنان "كله من شقاها وعرقها طول السنين اللى فاتت" ، والنحاس والألومنيوم والذى تولت فايزة رصه تحت السرير العالى غير صندوق الأطباق واالمعالق والحاجات الرفيعة. والكليم الصوف على الأرض بين السرير والكنبة والستارة الشبيكة على النافذة، وسعادة فايزة بتشريف امى لها ورفع رأسها أمام أنسابها الجدد.

يوم الفرح ذهبنا مع فايزة للكوافير ثم عدنا للمنزل ولبست فايزة ثوب العرس البمبى وكذلك الطرحة من صنع أمى وأختى أيضا ، وتولت أختى تزويقها حتى أصبحت مثل عروسة المولد بالحاحها على أختى أن تزود الحمرة شوية "عشان أخبى السمار" ولون الروج الأحمر القانى ورسمة حدود العين بالأى لينر فوق وتحت.

جاء العريس بالتاكسى المستأجر وتبعناه مع أمى وأبى لحضور الفرح والذى أقيم فى سطوح منزله. كان الحى كله مدعوا فى مساحة السطح الصغيرة وانفعصنا نحن الصغار فى ركن نتفرج على عالم جديد. وبين الرقص والطبل والزغاريد والتحية للمعازيم و الشكر لنا نحن الهوانم على الحضور مضى الفرح ، وجاء أبى ليحضر كتب الكتاب ويكون شاهدا على العقد والوكيل كان خالها . وفجأة وبالرغم من أن الفرح كان ما زال على أشده سرت همهمات بين الحريم ، وجاءت حماتها لتصحبها لشقتها وذهبت امى معهما وتبعهتم والدة فائزة وأخوات العريس. ووجدتنى أتسلل خلفهم لأرى ماذا يحدث؟، وفى الشقة كان الستات يتحلقن حول فائزة فى غرفتها وهى جالسة فوق الفراش. ومن الباب الموارب تابعت حماتها تقول لأمى: "ما تآخذيناش يا هانم احنا ناس على قدنا ولازم الدخلة تبقى بلدى" ، " يا جماعة انتو كده حا ترعبوا البنت سيبوها مع جوزها " قالت أمى ، وتدخلت احدى أخواته" لا موأخذة يا هانم ، الحرص واجب برضك مهما ان كان دى متربية فى بيت فيه شبان " والا انتى خايفة من حاجة" وغضبت أمى وصاحت " ايه لزومه الكلام ده البنت كانت متصانة عندى زى بناتى وأكثر" وتوجهت لأم فايزة قائلة: " انت موافقة على اللى حا يعملوه فى بنتك؟" فأومأت أم فائزة برأاسها بالموافقة وبدأ وجهها يشحب أكثر من شحوب الفقر الدائم عليه. " خلاص انتو أحرار" بس أنا مش حاقف اتفرج على الجهل ده حرام تهدوا فرحة البنت بالطريقة دى وترعبوها"، وغادرت أمى الغرفة والشقة كلها الى السطح واختبأت منها خلف الكنبة فى الصالة وأنا أكثر اصرارا وفضولا على فهم ما يجرى ومتباعة ما سوف يحدث خلف الباب الموارب، ولفت سيدة من الموجودات سبابتها اليمنى بشاشة ونشرت فوطة بيضاء تحت فايزة فى رقدتها بعد أن جردتها من بعض الملابس وأمسكت باقى النسوة كل بيد أو برأس أو برجل ؟ وكتفوها ولا أدرى لم قفز لذهنى فجأة منظر ذبيحة العيد؟ ، ولم تعترض فايزة بل سلمت لهم نفسها ، ولشدة تزاحمهم حولها لم أرى جيدا تفاصيل ما يحدث، و بعد دقائق ارتفعت الزغاريد وانفضت النسوة من حولها وتركوها منكسة الرأس يملأ ا نظراتها الألم منكوشة الشعر مهلهلة الملابس لا تقوى على الحركة حتى ظننت أنها ماتت ، وخرجت الأم وقد عاد لها لون وجهها الكالح وهى تلوح بالفوطة البيضاء وعليها انتشرت بقع الدم الفاقعة ولم ادرى بنفسى الا وهم يحاولون افاقتى ويرشون على وجهى الماء و أنا أردد فى فزع " عملتم فيها ايه؟ دبحتوها؟ ليه؟ هى عملت لكم ايه؟ " وأمى تأخذنى فى حضنها وتربت على رأسى "ما تخافيش يا حبيبتى ايه بس اللى نزلك ورانا" ، ولم أهدأ الا حينما جاءوا لى بها ... بفايزة بعد أن أصلحت من هيئتها و لأتأكد أنها سليمة وأخذتنى على جنب لتقول لى" أنا كويسة أهه زى القرد تعالى نطلع نرقص فوق فى الفرح ونغنى أغانى عبد الحليم" وكعادتها فى تعريفى بحكم أنها الكبيرة بما لا أفهمه قالت " يا عبيطة دى الدخلة البلدى" ولم أفهم ،الا بعدها بسنوات ماذا تعنيه ! تبعتها الى السطوح لأقو ل لأبى "يللا بينا نروح من هنا" ولم أزرها أبدا بعدها فى بيتها الجديد رغم الحاح أمى على لأصحبها حين تعلم بولادة جديدة لفايزة " يا بنتى تعالى معايا شوفى النونو أنا عارفة فايزة حتسألنى عليك" وأرد فى اصرار " لأ مش عاوزة أروح عند الجزارين دول".

وانقطع ما بيننا من صداقة ، فلقد صارت فايزها زوجة ولها مسئولياتها وأنا ما زلت طفلة فى الاعدادى، وكانت تحرص على زيارتنا خاصة فى الأعياد والمواسم كل مرة تحمل طفل صغير على كتفها أو تجر آخر بعد أن زادوا ، وكنت أسمعها تشكو لأمى من هدة حيلها فى خدمة كل شقق العائلة بمفردها ويبدو انهم لهذا وقع اختيارهم عليها، وسخريتهم مما تطبخ لزوجها من مكرونة بالبشامل أو صينية جلاش، وكانت أمى تطمئنها بأن تصبر، وحماتها ان عاشت النهاردة فمش حا تعيش بكرة ومسيرها تبقى حرة فى شقتها، ثم فى آخر الزيارة تعطيها اللى فيه النصيب من لحوم ونقود والتى غالبا لا تأخذها وتقول لأمى" لأ خليهم لى معاكى يا ستى ولما أعوز حاجة حأبقى آجى آخدها " وذلك خوفا من أن تستولى حماتها عليها ، وكانت فعلا تأتى أحيانا على عجل بمفردها اذا اتزنقت فى فلوس لتذهب بابن لها لدكتور أو لتشترى له دواء من خلف ظهر أهل أبيه اللى دياما شايفين انه "على ايه الدكتور هيه فلوس على الفاضى ، اعملى له كباية شاى بليمون وهو يبقى زى الحصان" او لتدفع له فلوس المدرسة فحماتها "مش موافقة على كده" " يعنى اللى تعلموا أخدوا ايه يا حسرة أهو زى ولاد اعمامه يتعلم له صنعة أحسن" الا ان الشىء الوحيد التى كانت تصر عليه فايزة ولا تتزحزح عنه ويجعلها تقف أمام الجميع هو تعليم أولادها بمعونة صادقة من أمى.

فايزة - كيف انقطعت الصلة بيننا؟ هل بالعزال لبيت جديد ، لا أذكر!... ولماذا بعد أن ضاعت من ذاكرتى لسنوات تذكرتها فجأة فى أثناء سماعى لصوت عبد الحليم من مذياع السيارة يغنى أعز الناس حبايبنا ، وكان أول ما قفز لذهنى بألم تفاصيل دخلتها البلدى!

هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

فعلا قصة جميلة جداً , شدني فيها طريقة الكتابة مع اني لست من هواة القراءة , فأنا مجرد مبرمج كمبيوتر وجدت هذا الموضوع بالصدفة خلال بحثي عبر الانترنت , عجبني جدا بالموضوع طريقة رواية القصة وما تحتويه من تراث قديم وعادات وتقاليد فأنا اعشق التراث , مع ان هناك بعض العادات السيئة والمعتقدات الخاطئة التي اتمنى ان تذال من المجتمع لتبقى العادات الصالحة والتراث الجميل الذي يصبح ذكريات جميلة في المستقبل نتحاكى بها مع ابنائنا واحفادنا ,,,,,,,,,,
مبرمج / محمد مصطفى