فى عمارتنا الجديدة أتت طنط نعيمة للسكنى فى الشقة التى تحتنا بالدور الثالث. وطنط نعيمة هى زوجة أمين بيه أيوب وكيل الوزارة المحال على المعاش. انسان لم أرى فى حنوه وطيبته فى حياتى ، أو كما يقول المثل يطحت على الجرح يطيب. ولم تكن فى الحقيقة جيرة طنط نعيمة طيبة ككل الجيران. ففجأة نجدها تظهر فى الشباك أو البلكونة وتبدأ بالزغاريد ثم تنتقل لوصلة من الشتائم وتختمها بالدعاء على جمال عبد الناصر والثورة واليوم الأسود حين ألغوا البهوية وطلعوا أمين بيه على المعاش وأحيانا تخلع بعض ملابسها أو غطاء رأسها وتلقى بها فى الشارع. والغريب أنها كانت دائما تبدأ مسلسلها هذا وأمين بيه خارج المنزل أو على الأدق بمجرد ما يحود من على ناصية الشارع. وربما يرى البعض انه: وماله ست غلبانة وعقلها خف ايه المشكلة؟ ولكن فى الحقيقة انها كانت مشكلة كبيرة لى ولأخوتى الصغار بل ولكل الجيران.
ولم يكن الموضوع يقتصر على وصلة ردح وشوية زغاريد وهدوم بتترمى من غير ما تتعرى وخلاص لكنها كانت تتربص بنا على السلم وما ان نطأ عتبتها حتى ينفتح بابها فجأة وتظهر وهى تضع الروج الفاقع على كل مكان فى وجهها وتطلق صيحاتها فى وجوهنا ولا تعلم حقيقة أهى تضحك أم تبكى؟ كماكانت أحيانا ترتدى فى يديها زوج أسود من أحذية أمين بيه زوجها. أو أحيانا أخرى تقف وهى ممسكة بأحد القطط السوداء ثم على حين غرة تلقيها علينا فتثير رعب القطة ورعبنا فى آن واحد لنصرخ معا أنا والقطة ، والمشكلة ان شقتهم كان لها بابين باب فى أول البسطة وباب آخر فى نهايتها ، وكنا نتسحب على السلالم ثم نأخذ البسطة جرى فلا ندرى خلف أى باب تكمن لنا لتفاجئنا ، وطبعا احنا بتشوف المنظر ده وهى ترتدى قفازات الأحذية السوداء - رغم انه ما فيهوش أى رعب لكن كنا أطفال- ونقول يا فكيك نجرى اما لفوق أو لتحت على السلالم أيهما أقرب. و لو جرينا لتحت تبقى مصيبة سودة وحطت علينا ، ما هوها نرجع نطلع لفوق لشقتنا تانى ازاى؟ فنبدأ بالبكاء ثم الصراخ والنداء على ماما - رحمها الله - عشان تلحقنا. ورغم ان الموضوع كله ما كانش بياخد ثوانى الا ان قلبى - وأذكر ذلك جيدا - كان يقف فى حلقى من كثرة الخوف بعدها لساعات طويلة. وهكذا أصبح النزول من الشقة والصعود اليها فى الذهاب للمدرسة والعودة منها ، مشكلة المشاكل خاصة لى. وما كان من أمى غير أنها كانت تنظم نوبات لحراسة السلم لنا بالتناوب بينها وبين شغالتنا فى النزول الى المدرسة، وكذلك فى العودة من المدرسة مع اضافة جرس آخر للشقة فى أول دور حتى ندق عليه فينتظرنا من عليه نوبة الحراسة فى أعلى السلم حتى نمر من بسطة طنط نعيمة فى سلام.
وللحقيقة أن عرض طنط نعيمة المسرحى لم يكن يوميا بل كان موسميا ، ففجأة تبدأه لأيام وفجأة ينقطع لأيام تصل لشهور. وعلى قول الجيران كان الجنان يزيد فى آوان الباذنجان أى حين يظهر محصول الباذجان فى السوق . ولم يكن هذا الترهيب لنا نحن الأطفال هو فقط ما تقوم به ، بل تعداه لنشاطات أخرى مثل القاء الحبر والأوساخ والزبالة على غسيل الجيران المنشور. أو قطع حبل السبت باستخدام سكين أو مقص بعد أن يملؤه البائع بالمشتريات فيطب ساكت فى أرض الشارع وتتلوث محتوياته بترابه بعد تبعثرها. وطبعا تقوم خناقة فى كل مرة بينها وبين صاحبة السبت المقطوع أو الغسيل المتسخ من الجيران فى العمارة. وكان أن فاض الكيل بالجميع واتفقوا جميعالاعلى الحديث مع أمين بيه فيما يحدث من ورائه. ولدهشة الجميع فاض الدمع من عيونه وترقرق وأخذ فى الإعتذار عنها لنا ، وعرفنا وقتها أنه يعلم تماما ما يجرى فى غيابه بل أنه أحيانا يكون موجودا ويقف خلف الشيش يحايلها أن تكف عن هذيانها وتدخل من الشرفة. وناداها ليوبخها أمامنا وهى لم تنبت شفتاها بكلمة انما وقفت مطأطأة الرأس تهز رأسها بايماءة الموافقة على كل ما يوجهه لها من تأنيب ولوم.
وبدأت القصص عن سبب جنونها تنتشر من خلال الشائعات بين الجارات فمن قالت أن طنط نعيمة كانت خادمة فى سراية والده أيوب بيه ولقد أحبها أمين بيه فطرده والده من السراية وحرمه من الميراث ، وبعد زواجه منها أصيبت بنوبات الجنون هذه وتعب من عرضها على الأطباء ورغم ما كانت تتناوله من أدوية لعلاج حالتها الا أنها لم تتحسن بما يكفى ،فكان يرحل بها من شقة الى أخرى حين يشكو الناس من جنونها. أما سبب الجنون فتنوع بين أنها جنت حين لم تستطع أن تنجب له ولدا ونتيجة لخوفها الشديد من أن يتركها أو يتزوج أخرى عليها، أو أنها كانت حامل وسقطت ولم تستطع الإنجاب مرة أخرى فأصابها الإكتئاب ثم الجنون ، أوأن ما حدث لها هو رد فعل لطردهم من رغد العيش فى السراية للحياة المقفرة خارجها ، وأحيانا يؤولون السبب الى طلوعه فجأة على المعاش والطرد من الخدمة كوكيل وزارة وتأثر دخلهم بعد الثورة.
لم يكن لهم زوار سوى ابن أخ أمين بيه وكان يمر عليه كل كام شهر ، وكان أمين بيه هو الذى يشترى طلبات المنزل ويعود بها مع مرسال لتوصيلها للمنزل وكنا نقابله فى مدخل العمارة مرتديا بدلته الكاملة وعلى رأسه طربوشه الأحمر المميز ويكون عائدا من القهوة فهى المكان الوحيد الذى يذهب اليه يوميا فيما عدا يوم الجمعة، أو يذهب للمصلحة لقبض المعاش أول كل شهر وكان يسر للقيانا ويداعبنا ويخرج لنا من جيوبه الأرواح والملبس. وكنا أحيانا نساعده فى حمل مشترواته بل ونتجرأ وندخل فى حراسته وحماه لوضعها على ترابيزة السفرة فى الصالة الواسعة لنشبع فضولنا مع مقاومة شديدة للرعب الذى يجتاحنا وذلك للتلصص على المكان الذى تسكن فيه الجنية التى تروعنا. وحين ترانا معه كانت تبتسم لنا فى هدوء وتعطينا مما كنا نحمل من فاكهة وتقول:" سلموا لى على ماما" أو "ابقوا تعالوا زورونا، طب ده أمين بيه بيحبكم خالص وربنا يعلم!" وكانت عيون أونكل أمين بيه حينئذ تفيض بالمحبة لها ولنا.
لا أستطيع حصر عدد المرات التى تشنكلت ووقعت فيها على السلم وأصبت قدمى أوظهرى رعبا وهربا منها حين تعودها الحالة فتخرج لمفاجئتى. ومما زاد الطين بلة أننا أحيانا كنا نعثر على قطة مخنوقة أو طائر ميت و ملقى أمام باب شقتها أو على شباك السلم الواقع فى نفس الطابق. رغم أنها كثيرا ما كانت تحضر للقطط الطعام وتقف تناديهم على السلم لكى يحضروا لأكله وغالبا ما تكون القطط كلها سوداء مما دعا الجيران للإعتقاد بأنها تقتل القطط لتستعين بها فى الأعمال السحرية . وطبعا هذه الشائعة كانت تهىء لنا بأن الدور علينا لتقتلنا وتلقى بنا مثل قططها السوداء.
كم مرة هدد أحد الجيران أن يأتى لها بالبوليس أو النجدة ولم يحدث ، حتى وقعت الواقعة فعلا وحضرت النجدة يوما بعد بلاغ من أحدهم وذلك حين تربصت بأمى وللمرة الأولى والأخيرة وكانت أمى حاملا فى آخر العنقود وفى أثناء صعودها حاملة أخى الأصغر دفعتها باتجاه السلالم دفعة قوية مفاجئة ولولا تشبث أمى بأخى بيد والدرابزين بيد أخرى لحدث ما لا يحمد عقباه ولكن الله سلم ، وذهب أمين بيه الى القسم لأنهم لم يستطيعوا السيطرة عليها واصطحابها ثم تنازلت أمى لحق الجيرة ، وأخذ الضابط عليه تعهدا بمراقبتها ودفع أذاها عن الجيران والا سوف يبلغ عنها مستشفى الأمراض العقلية خاصة وأنها كانت تشتم فى الثورة ورئيسها تحديدا . مرات ومرات رأيته يبكى ويعتذر للناس ، وحين يقولون له " ما تبعتها السراية" يقصدون مستشفى المجانين يقول "أبدا طول ما أنا عايش ما يهونش على أبهدلها ، دى كانت عايشة فعلا فى سراية" .
ومرض أمين بيه وكان على الجيران عيادته فى مرضه الذى طال لسنوات فلم يكن له أهلا غيرنا ثم غادر الدنيا بعد توصيته لصاحب العمارة بألا يطرد طنط نعيمة من الشقة وأخذ منه ميثاقا غليظا وتعهد له بذلك وأوفى. وأصبحت طنط نعيمة وحيدة بعده تماما ، وبدأت تعتاد الخروج لقضاء حوائجها بنفسها وكنا نساعدها فى حمل أغراضها والصعود بها لكننا لم نجرؤ بعد رحيل أمين بيه على الدخول لشقتها الا فى حراسة الكبار منا ، والغريب أنها كانت قد هدأت كثيرا بعد وفاة أمين بيه الا من بعض الهنات .
ومرضت طنط نعيمة هى الأخرى وكان الجيران يتناوبون رعايتها والقيام بشئونها، ومن ضمنهم أخى الكبير وزوجته والذى تزوج وأقام فى نفس الشقة بعدنا . وكنا نحن نعودها أحيانا بعد أن كبرنا وذهب عنا خوفنا منها ووعينا بأنها انسانة مسكينة لا تعى ما تفعل ولا تملك من أمرها شأنا حين تأتيها النوبة .
ثم ماتت طنط نعيمة الملقبة ب "نعيمة المجنونة" بعد أمين بيه بسنوات كثيرة . ولم يكن فى وداعها سوى الجيران وأبناؤهم الذين طالما روعتهم بعد أن أصبحوا رجالا ونساءا.
ورغم انتقالنا من الشارع كله الى منزل آخر غير بعيد ورغم مرور عشرات السنين على تلك الوقائع الا أننى ما زلت أخاف القطط وأرتعب من الأسود منها بالذات حين ألتقيه على السلالم، وحتى الآن ما زلت أحلم بكوابيس تفاصيلها تعود لذكرياتى المروعة فى ذلك الوقت عن طنط نعيمة وقططها وطيورها النافقة وقفازاتها الغريبة من الأحذية السوداء .
رحم الله أمين بيه أيوب وزوجته طنط نعيمة "المسكينة" وغفر لها ما سببته لنا من ذعر فى طفولتنا!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق