الأحد، 28 يونيو 2009

الى صديقتى التى لا أتذكر اسمها!

Impossible
فى منتصف الثمانينيات كنا زميلتا عمل فى فرعين مختلفين فى احدى الشركات الأجنبية وكنت أكبرها بسنوات قليلة لكن ذلك لم يمنعنا من التعارف بالتليفون ثم الصداقة بعدها والخروج بعد العمل معا لحضور الندوات والمحاضرات ... حكت لى عن والدتها التى ترتدى الملابس الريفية كرغبة والدها رغم أنها تربت وعاشت فى العاصمة وتعلمت حتى فكت الخط رغم أنها كانت تهوى العلام ، وحتى بعد وفاته بعد ولادتها بأسابيع.... لم يتغير في ملبسها شىء غير استبدال أمها لملابسها بملابس أخرى من نفس الطراز لكنها سوداء تماما حتى غطاء الرأس..... فلقد كانت والدتها تحبه كثيرا وكان يدللها أكثر...وحفى حتى يتزوجها بعد أن رآها فى احدى محلاته تشترى شيئا مع أمها.....وكيف أنه كتب لها الكثير من الممتلكات ليوافق أهلها على الزواج منها .... حكت لى عن أشقائها الرجال الذين يكبرونها بالعديد من السنوات والحريصين على تربية شنباتهم كوالدهم والتباهى بها....وعن أولاد أخوتها الصغار والذين يتكلمون بطريقة بلدى لأن زوجات أخوتها آتين من مناطق شعبية وهن غير متعلمات ....وكانت تخفيهم عنى وتغلق علينا غرفتها ولا تسمح لأحد بالدخول علينا حين أزورها فى منزل العائلة ......وهى على الرغم من سمارها المحبب والذى ورثته وحدها عن أبيها المنحدر من صعيد مصر الا أنها كانت دائمة التحدث معى بالفرنسية التى تجيدها كأهلها ويرجع الفضل فى هذا لأمها المتعلمة ذات الملامح التركية فى الشكل والذى ورثه عنها اخوتها الرجال....فرغم تربية أمها الصارمة، الا أنها كانت حريصة على الحاقها بإحدى المدارس التى تتولى فيها الراهبات الفرنسيات التدريس....ثم بعد ذلك كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية رغم ان اخوتها الشباب لم يكملوا تعليمهم العالى لانخراطهم فى العمل فى بيزنس العائلة بعد وفاة الأب....كانت أمها ترفض لها الكثير من الطلبات الا شراء الكتب فلم تقل لها لا أبدا على كتاب حتى و لو غلا ثمنه.....وكانت غرفتها المليئة بالكتب هى شرنقتها التى انعزلت فيها عن عائلتها... فهى لا تشاركهم فى شىء أبدا حتى فى وجبات الطعام... تأكل بمفردها فى غرفتها وحجتها أنها تريد أن تركز فى مذاكرتها ولا تضيع وقتها .....ولم تعترض أمها على صداقتنا - وهى التى حرمتها طويلا من الخروج مع الصديقات - رغم لقب مطلقة الذى أحمله وقد أخبرتنى أكثر من مرة بنفسها أنها توافق على خروجها معى للندوات والنزهات لأنى انسانة عاقلة ومتدينة ومؤتمنة حيث كنت أربى أولاد أختى المتوفاة بعد وفاة أمى.

و تعود بى الذكريات لحكاية صديقتى عن حبيبها ... ولقد عرفتنى عليه يوما ما فى احدى الندوات التى دعته اليها... فهو يصغرها بسنتين وقد كانت على مشارف الثلاثين يوم أن تعارفا ... وكان حاصلا على دبلوم صناعى تعرفت عليه يوم تعطلت سيارتها وتطوع لتشغليها دون سابق معرفة ودون أن يأخذ أجرا على عمله بالسيارة بعد ذلك فى ورشته ..... كان شابا مهذبا يكاد يذوب خجلا حين يلقانا ويأخذ جنبا ويعتصر كفيه بشدة حتى لا يمد يده بالسلام.... لا يتكلم كثيرا لكنه ينصت لحديثنا معا فى لقائى بهما ... ولا يتدخل فى حديثنا وكأنه لا يعنيه ولا يعنيه أيضا أن تتكلم معظم الوقت معى بالفرنسية والتى لا يعلم منها حرفا واحدا.... كانت أحيانا فيما بيننا تضحك على طريقته فى الكلام والملبس الا أنها رغم أنه impossible ، تحبه ... فرغم ثراء عائلتها وتعليمها هى الأجنبى الا أن جمالها البسيط كان يحصرالمتقدمين لها فى دائرة عمل إخوتها ....معلمين وتجار فى سوق الأزهر ممن يريدون القيام بصفقة الزواج طمعا فى صفقات تجارية أخرى....و زادها ذلك تصميما على الإرتباط بحبيبها فهو على الأقل متعلم وان كان قليلا ...... وهو مستعد لفتح منزل ولكن ليس كمنزلها... فعلى الرغم من أن الورشة فى حيه الشعبى تدر عليه ربحا جيدا الا أنه ما زال مكبلا بمسئوليته تجاه شقيقاته ووالدته .... وتعجبت كيف استطاعت تلك المستسلمة لهم دائما ارغام أهلها على الموافقة على زواجها منه رغم ما أعرفه عن صلابة رأيهم خاصة أمها فى موضوعات أخرى كسفرها بمفردها لإكمال تعليمها فى فرنسا مثلا ..... وكيف نجحت فى اقناعهم ولو اننى أشك أن الموضوع كان فيه تنازل منها عن جزء كبير من ارثها فى تجارة الوالد .... وكان أن قاموا بشراء شقة لها فى حى راق كطلبها بعيدا عن منزل العائلة والذى بنوا بها فيه شقة لها لم تدخلها أبدا.....وكيف أقنعت حبيبها بشراء شبكة أغلى مما يستطيع ومساهتها معه فى تدبير الفرق ليشرفها أمام أهلها....وكيف أنه لم يفهم اصرارها على الشبكة الألماظ والذى تراه شقيقاته "ولا يفرق عن الزجاج" ... قالت لى أنها تعرف انها تغالى فى طلباتها مع اخوتها وتستعين بأمها كثيرا حين يمتنعون عن الإمتثال لرغاباتها فكله من نصيبها فى الميراث والذى لم تأخذ منه مليما واحدا من قبل سوى مصاريف تعليمها وسيارة أهدونها لها بعد نجاحها فى الجامعة لتذهب بكرامة لعملها والذين لم يوافقوا عليه الا باصرار من أمها.أيضا.... وتفرغت شهور لإعداد بيتها وكانت تحكى لى بفرحة غامرة عن كل ما تشتريه من ماركات أصيلة للصينى وطقم الفضية والتحف والفازات السينييه ... وبالفعل تم تجهيزها بجهاز راق على حد تعبيرها فكل ما طلبته أحضروه لها ... فهى فى النهاية الصغرى والبنت الوحيدة اليتيمة التى لم ترى أبدا والدها....ولا أذكراننى حضرت زواجها ربما لعدم وجودى فى المدينة فى وقت حدوثه....بل لا أذكرهل أقامت فرحا أم لا؟؟ ولكنى أذكر جيدا أن فرحتها بالزواج كانت تفوق فرحتها بالزوج نفسه!

و تباعدت طرقنا فأنا سافرت للخارج للعمل وهى علمت فيما بعد أنها سافرت بمنحة للحصول على الماجستير من العاصمة الفرنسة بعد زواجها و انجابها لطفل وحيد وتركته مع والدتها والتى توفت بعد رحيلها بسنة فانتقل لأبيه تحت رعاية عماته فى شقة أهله القديمة..... وكنا نتراسل أحيانا ، وفى رسالاتها كانت تمدنى بالقليل عن أخبارها فى العيش بمفردها فى العاصمة الفرنسية وانجذاب الشباب الفرنسى لسمرتها ودهشتهم من جنسيتها المصرية..... ومن شطارتها فى الدرساة وتقافتها الواسعة ..... ثم تقابلنا فى احدى أجازاتى وكان طفلها فى سن دخول المدرسة و تبحث له عن مكان فى احدى المدارس الفرنسية ... وقالت أنها طلبت الطلاق لعدم التكافؤ بينها وبين زوجها ...وأنه يرفض أن يعطيها ولدها رغم أنها لا تريد منه شيئا غيرالطفل ، قهى تبريه من كل الحقوق وحكت لى أيضا استنكار أخوتها لطلبها ووتهديدهم لها بالمقاطعة.... وتحدثت - بنفس حماسها القديم فى الحديث عن حبها له- ولكن فى هذه المرة عن البغض الذى نما بينهما.... وعن أنه لا يفهمها ، بل انها لا تعرف كيف تتحدث معه وهو لا يجيد الحديث حتى بالعربية.... وعن طريقته المقززة فى الأكل ..... وأنها تخجل من الخروج معه فى الشارع ... وعن جلسته يوم الأجازة فى جلباب وشعره منكوش ... impossible....وعن اصطحابه للولد معه الى الورشة رغم أعوامه القليلة ، وتركه يلعب مع الكلاب فى الشارع..... وكنت أتسائل وأنا أتابع شكواها: هل كان زواجها تذكرة للخروج من شرنقة العائلة المتحفظة لتسافر وراء طموحها؟؟؟ هل أحبت زوجها أبدا أم أنها استشفت طيبته وتعلقه بها فكان الجسر الذى عبرت عليه للحصول على حريتها الحقيقية..... هل كان وسيلتها للهروب من شبح العنوسة؟؟؟ هل طلاقها نهاية لخطة رسمتها بغير قصد ؟؟؟؟ فماذا عن أمومتها هل جاءت مصادفة خارج التخطيط؟؟؟

ثم اختفت واختفت عنى أخبارها تماما.... ولا أدرى لم تذكرتها فجأة اليوم بعد عشرات السنين؟؟... والغريب انى أتذكرعنها تفاصيل صغيرة كثيرة الا اننى لا أذكر اسمها.... وأذكر تفاصيل كثيرة عن منزل عائلتها لكننى لا أذكر عنوانه !!!! ففى زحمة الأيام وتوالى السنين ضاع منى رقم تليفونها وأجدنى الآن أتذكر فى دهشة أنها لم تدعنى أبدا لمنزلها بعد زواجها ..... بل كنا نتقابل فى الأماكن العامة ... وأتذكر وجهها المحبب وعيناها نصف الليمونة والتى تعتصرهما عصرا حين تبكى.... ثم تكف فجأة عن البكاء لتسطع أسنانها البيضاء وتشرق ابتسامتها قائلة: " impossible".... وأذكر غطاء الرأس الذى خلعته قبل سفرها الى فرنسا واتجاهها للتدريس فى المركز الثقافى الفرنسى...ولكنتها الفرنسية والتى تتعمد فيها لثغ الرا ء ..... والغريب انى كنت أحبها أكثر بغطاء رأسها فلم يزيدها كشف شعرها بهاءا فقد كان غير ناعما وكانت تتركه غير مملس عمدا..... أذكرمناقشاتها التى لا تنتهى فى السياسة والدين والفن فثقافتها كانت متنوعة لقرائتها النهمة المتعددة الاتجاهات ... وكان لحديثها صخبا محببا فهو خليطا من الفرنسية والعربية والانجليزية أيضا ... أذكر الكثير من الدقائق عنها ولا أذكر اسمها .... كأنه مسح تماما من شريط الذكريات.... أين هى الآن يا ترى؟ هل تطلقت؟؟ وماذا عن ابنها؟؟؟ هل تركته لوالده ؟؟ هل عادت ثانية لفرنسا كما كانت تتمنى لنيل الدكتوراة ؟؟ لا أعرف وتمنيت لو أعرف !!! أو على الأقل أتذكر اسمها ..... فعلا Impossible"" .

ليست هناك تعليقات: