سرت قشعريرة فى أطراف أقدامها فتقلبت فى مرقدها فوق السرير ومدت يدها لتصل للغطاء كى تتدفأ به ، كان ذلك فى أحد أشهر الخريف منذ زمن حين كان فصلا تتقلب فيه الفصول الثلاث الأخرى فى يوم واحد دون تمهيد، وتحديدا كان اليوم الثامن من شهر نوفمبر.
أثناء تدثير جسدها بالغطاء ا صطدمت يدها به فجفل وصاح بها "فيه ايه؟" أجابت فى صوت خافت راعت فيه الهدوء "أبدا بردانة ! هو انت شغلت المكيف؟ " قام من رقدته فى حنق وبسرعة البرق كان عند المكيف وأغلقه قائلا: "وآدى المكيف علشان ترتاحى ثم ذهب الى النافذة التى تطل فوق الفراش ليفتحها على مصرعيها فانتفضت من رقدتها " الناس كده شايفانى وأنا نايمة فى السرير" وحقا كانت النافذة تكشف السرير تماما للجيران فى العمارة المقابلة.ثار قائلا وهو يغلق النافذة فى عنف " دى بقت عيشة تقرف" وكأنها تنساق وراء قضاءا قدر لها وخطة وضعت له بعناية وليس عليه سوى تنفيذها باتقان . وعلى غير العادة نطقت دون تفكير "خلاص اذا العيشة بقت تقرف قوى كده نفضها" وكانت تلك الكلمة السحرية التى ينتظرها منذ أكثر من عام. شهورا وهى تعانى فى صمت من محاولاته تحويل كل حوار الى شجار ليخرج من المنزل مغاضبا ولا يعود الا فى اليوم التالى بحجة أنه يريد أن يريح أعصابه عند والدته ، أو بعد نومها وبعد منتصف الليل بساعات.
صارا لاعبىين تنس يطاردان كرة خفية يقذفها نحوها فى عنف ولا تملك سوى صدها وإعادتها له حتى لا تخسر الماتش. مد يده وأخذ إحدى الوسادات وتمدد على السجادة وهو يحدث نفسه ولكنه حريصا أن تسمعه " أنا عارف ان مفيش فايدة فى حياتنا مع بعض ، وان الحل هو الطلاق وبما انك انتى اللى طلبتيه دلوقت يبقى خلاص بكرة الصبح نخلص وكل واحد يروح فى حاله" . كم مرة سمعت منه لفظ الطلاق عشرات المرات خاصة فى هذه السنة؟ كم مرة هددها به وكانت تسترضيه وترجوه ألا يغضب وتعتذر عما أغضبه رغم تفاهته وتتودد اليه حتى لا يسرع بالخروج وهو غاضب منها. كانت هذه الطريقة تفلح معه فى بداية زواجهما من خمس سنوات أما الآن فلم تعد تفلح فى تهدئته بل ان ثورته تزيد ويلومها بأنها فى كل مرة تقول هذا ثم تعود لفعل ما يغضبه.
والحقيقة انها تجد نفسها الآن تفكر فى كل تلك الأفعال فتجد ان معظمها أشياءا لا قيمة لها ويمكنه التغاضى عنها: كأن تعود متأخرة الى المنزل عن الموعد الذى حدده لها لأنها لم تجد وسيلة مواصلات تعيدها فى الميعاد ، أو يتصل بها ليجد التليفون مشغولا لأكثر من 10 دقائق ويكون أباها هو المتحدث والذى لا يتكلمها فى مجمل المكالمة أكثر من دقيقتين الا أن الوقت يتضاعف حين يقاطعه زبائنه فى المتجر فيذهب لتلبية طلباتهم ويستبقيها باقى ذلك الوقت على الخط منتظرة عودته لها، أو صديقة تطلبها لتشكو لها وتعيد وتزيد فيسقط منها الميقات المسموح به وخاصة اذا لم تتوقع منه مكالمة لها فى هذا الوقت بالذات.
تحملت كثرة ثوراته ،و تعمد اهاناته و تزايد اهماله لها حتى كادت الخيوط التى تربطهما أن تنقطع . ولم تعد لغة الكلام تسعفهما بعد أن كان التفاهم بينهما لا يحتاج سوى نظرة . أحست بأن الأنانية كالرياح الصحراوية.. جففت كل أنهار الحب التى كانا ينهلا منها ، وأن كل نسائم الوفاق التى تنفساها قد سكنت وخرجت تلك الرياح من مصدر غير معلوما لها تنفث الكراهية وتنهش محراب أمانهما يسوسها خيالات غير واضحة المعالم لأشخاص لا تعرفهم لكنها تحس بهم يخربون حياتهما ويقوضون ما تبقى من مشاعر بينهما ، زادا عنه طويلا حتى استطاعا بناء عشا ليجمعهما رغم أنف المعارضين.تذكرت ثورته على والدته - والتى يكاد يعبدها بعد الله - حين سمعها تتحاور معها بطريقة أحس فيها بتجن عليها. ولم تكن تغضب من حماتها أبدا بل تعذرها لأنه وحيدها وتتفهم احساسها بفقدان الوحيد حتى لو كان هذا الفقدان حلالا يشرعه الله. كم ثار فى هذا اليوم وأصر على أن ينفصلا فى المعيشة وتفاجأ بعد عودتها من عملها بخادمتهم تنتظرها على الباب وتقول لها فى شماتة "اذهبى الى بيت أباك ، فلقد أرسلنا لك هناك كل أغراضك" أخفت ألمها عن السائق وطلبت منه ايصالها الى منزل الأسرة وقلبها ينهشه القلق و لا تدرى حقيقة ما حدث ؟
هنا استقرا فى شقة أسرته القديمة والتى فى نفس منزل اسرتها حيث تعارفا وتحابا منذ كانا مجرد صبىيا وفتاة. استقرا فى الشقة ولا يملكا سوى حجرة النوم هدية والدها. وجاء عليهما رمضان ولم يكن لديهم سوى مقعدان وطاولة من الخزيران . وكم كانت سعادتهما فى العام الأول وهما يضيفان الأثاث والأدوات الكهربائية حتى كادت الشقة أن تكتمل . نعم كادت فلم تتم أبدا والمثال على ذلك انهما اشتريا قماشا لكنهما أبدا لم يصنعا منه الستائر كما كانت تأمل ولهذا اعترضت على فتح النافذة حيث لم يكن هناك أى ستائر لتحجب مخدعها عن الجيران.
قبعت فى الظلام دون حراك تتصارع الأفكار فى رأسها، نفسها تحدثها بأن تتودد اليه حتى لا يكبر الموضوع ، فتهدأ قليلا وما ان تتهيأ للكلام حتى يخرسها احساسها المرير بكرامتها المهانة. وبين نفس تطلقه وآخر تحبسه أطلقت رغما عنها زفيرا كبخار طال حبسه بين جنباتها. مما استفزه فقفز فجأة واقفا: " لأ وليه نستنى للنهار، قومى ندور على مأذون، ياللا البسى ". اندفع خارجا الى الردهة وسمعت قرص التليفون وهو يدور وفهمت من الحوار انه يحادث أحد أصدقاؤه متسائلا عن عنوان قريبه الذى يعمل مأذونا. وكأن الموضوع قد تم بحثه بينهما من قبل سمعته يقول " تمام زى ما اتفقنا احنا حانكون جاهزين وننزلك قدام العمارة علشان تودينا عنده بعد ربع ساعة" قامت تجر أقدامها ترتدى فى الظلام ما قابلها من ثياب دون تدقيق.
حاول المأذون اثنائه عما انتوى ورغم ان النصح كان موجها لهما معا الا أنه لم يعطى لها فرصة للرد أو الكلام مع الرجل. الى ان واتتها الشجاعة لتقول" هو اللى عاوز كده مش أنا" وانفجر منهالا عليها بالشتائم وغامت بها الدنيا وهو يذكر فيها أباها وأمها. ولم تفاجأ بثورته ولكنها فوجئت بثورتها هى " حرام عليك سيبهم فى حالهم بقى هما فى دا رالحق دلوقت" ووجهت حديثها للرجل " خلاص يا عم الشيخ خلصنى منه" وانسابت أنهار الدموع من عيناها وهو يلقى عليها بيمين الطلاق.
لا تدرى أبكت حبا واهما عاشته سنوات ؟ أم بكت سنوات ضاعت فى ذلك الوهم؟ هل بكت حزنا أم خلاصا وارتياحا؟ هل بكت ضياعا عاشته وصار ماضيا أم ضياعا مبهما ينتظرها مستقبلا ؟ فهى لمدة 12 عاما عمر علاقتهما ما بين ما قبل وما بعد الزواج لم تتنفس الا بأمره ولم تحرك ساكنا حتى يشير اليها. يشترى لها ملابسها وينتقى منها ما تلبسه حين تخرج معه أو من دونه. يرفض أن تقص شعرها وهى تعشق الشعر القصير، لا تطبخ الا ما يحب وتأكل نفس الأنواع فى ايام متقاربة فالأنواع التى يفضلها قليلة لا تتعد اصابع اليد الواحدة. وحين تشتهى شيئا معينا تتسلل بعد أن يخرج الى بيت أمها تتناول ما حرمته على نفسها ارضاءا له.
سنوات قاست من شكه وغيرته واتهامه لها بالكذب كأنه يمارس معها اسقاطا لما يفعله هو . سنوات تفنن فى التفتيش فى المنزل عن بضعة سنتيمرات لم تطلها يد النظافة ليسلط عليها سيف التبكيت أو سيف التنكيت حين يسخر من مظهرها أو من شيئا قالته دون مراعاة أن تسيل خجلا دمائها أمام الآخرين أم عجزا اذا كانا بمفردهما. سنوات تذكر نفسها بأنه يكفيها فخرا أنه اختارها هى دون أخريات لتهون على نفسها الحياة ولا تدرى انه اختارها لأنها ستكون طوعه وتحت أمره، وتعود تفكر أنه انفصل عن والدته من أجلها ولا تدرى أنه لم يثور من أجلها انما ثار لنفسه ولكى يقطع الحبل السرى الذى تخنقه به حبا وحتى يطير محلقا فى سماء جديدة يختارها لنفسه .
قالت جدتها لها ذات مرة: "حبيبك يبلع لك الزلط وبغيضك يعد عليك الغلط" وبين الزلط الذى أطلقه عليها فى ثوراته فأصابها اما شتائم بالأهل أو لطمات للوجه ، وبين جبل الغلط الذى ارتفع فوق رأسها فى صورة أخطاءا يخترعها لها كل يوم . وتحولت العلاقة بينهما الى علاقة العبد بالسيد ، فالعبد لابد أن يقول حاضر حتى وان تاه عقله ولم يعد حاضرا ، علاقة أشبه بالإدمان : إدمانا للخوف من الغد وما يحمله. وادمانا للسكون فماهى فيه معه قد يكون أحسن مما ينتظرها دونه. فقدت ثقتها بنفسها واستغنت عن التفكير بعقلها فهناك قيدا حديديا يطوق عنقها فلا تتكلم الا بما يحفظها اياه ، وقيودا أخرى فى أرجلها فلا تتحرك الا فى المحيط الذى رسمه لها . أما يداها فكبلها فى حبال أمسك أطرافها وله فقط الحق فى تحريكهما فى التوقيت الذى يرغب ، كانت عروسه ولكن عروسا ماريونيت صنعت فقط من أجل أن يمتلكها.
كيف تناست أن الله قد خلقنا أحرارا! وان الحرية هى منحة من الخالق لا نملك حق التنازل عنها لأى مخلوق! ولا تذكر متى بدأت فى التمرد؟ هل بعد أن هانت عليها الدنيا فقررت الفرار منها بمحاولة انتحار فاشلة. تذكر جيدا وهى تفيق ما قاله لها. "خسارة يا شيخة كنتى حاخلص من واحدة كافرة زيك". أم كان بعد وفاة والديها وحتى لا تدمى قلبيهما حين يتأكد لهما ما أبصرا به من سوء اختيارها له كزوج؟ أم بعد سكوتها على اعتداءه عليها بالضرب مما شجعه على الاستمرار؟ أم حين نزلت لتعمل واكتشفت آدميتها فى تعامل الآخرين معها؟ أم لإستفاقتها على همسات من حولها عن علاقاته المتعددة بأخريات والتى عانت منها نفسيا بانفصاله عنها وجسديا بأمراض نقلها اليها؟
خرجت من عند المأذون وحدها تنصت لسكون الحياة واختفاء الطنين من رأسها ، يداعب أنفاسها عبير الندى قبل طلوع الفجر، تمشى وحدها فى الطريق الى منزل عائلتها والذى وبرغم فراغه ممن كانا يعولانها الا انه الملاذ الوحيد الحقيقى المتبقى لها . راقبت شروق أول أيام شمس حريتها وابتسمت ردا على تحية عصافير رفرفت فوق رأسها وشقشقت لها نشيدا بالانتصار على العبودية. وشاع فيها الإحساس بالطمأنينة وانها ليست وحدها حين اقتربت من البناية لتسمع من بعدد مذياعا ترتل فيه آيات قرآنية لم تتبين منها سوى "فامساك بمعروف أو تسريح بإحسان" رفعت رأسها فى عزة وناجت بإخلاص " يارب".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق