كبر الطفل والتحق بمدرسة الفرير أو الرهبان وحين لم يظهر براعة فى دراسة الفرنسية بها ينقله والده وهو فى العاشرة الى مدرسة أخرى حكومية وينتقل من عام الى آخر حتى ينهى الثانوية ويظهر رغبة أن يلتحق بكلية الطيران ورغم صعوبة الاختبارات ينجح ويبدأ الدراسة بها فى بلبيس بعيدا عن أسرته بالقاهرة. تذهب الأسرة لرؤيته كل جمعة فى فترة ال45 يوما الأولى أو (شهر ونصف الحبس) كما يسمونها الطلبة بها ..تذهب الأسرة محملة بأطايب الطعام المحروم منه هناك. فى أحد التدريبات يكاد يهوى بالطائرة لخطأ فى استعمال الآلات وينقذه من السقوط مدربه والذى يقيده راسبا فى الطيران ويترك الطيران الى كلية التربية الرياضية بالأسكندرية فى العام الأول، ثم يعود لحضن الأسرة بالقاهرة بعد سنتان من الاغتراب . يتخرج ليلتحق بالجيش يمضى به من الأعوام أكثر من مدة تجنيده كضابط احتياط حتى قامت حرب 1973 ليتم تسريحه وهو يقترب من الثلاثون دون عمل.
حين ينوى خطبة ابنة الجيران يقرر السفر سعيا وراء الرزق بالعمل كمدرب للكرة الطائرة فى احد المدن الشمالية الشرقية للمملكة السعودية. وعاما وراء عام يمضى به العمرهناك.... تزوج وأنجب البنت ثم الولد يقيم بمفرده لأكثر من 10 سنوات. بعد أن سبقته زوجته بولديها للإلتحاق بالمدارس فى الوطن. حتى اتخذ قراره بالعودة والاستقرار فى مصر بعد أن تعدى الأربعين . شارك أخاه العمل بالتجارة فى المحلات التى كانت مغلقة لوفاة الوالد، و بعد تغيير النشاط التجارى بما يتناسب ودراسة الأخ الأكبر المهندس الذى استقال من عمله الحكومى ليجرب حظه فى استيراد المعدات والآلات من الصين بعد الانفتاح.
لم تكن التجارة غريبة علي الأسرة. فالأب رحمه الله كان تاجرا له ثلاث محلات بوسط القاهرة تدرب فيها كل اخوتها فى أثناء العطلات الصيفية. تذكر كيف كانت تصحب أخاها وهى صغيرة فى وردية بعد الظهر لأحد المحلات تعاونه فى البيع كنوع من النزهة لها. وبعد أن يغلقا المحل فى منتصف الليل أو قبلها بقليل يصحبها فى جولة على الأقدام فى شوارع وسط البلد ينصتان للهدوء بعد يوم صاخب، يأخذان سندوتشات الشاورمة من المحل المقابل لسينما مترو فى شارع سليمان باشا يأكلانها فى تلذذ و يتمشيان حتى نهاية الشارع ثم يخترقان الميدان فى اتجاه باب اللوق حيث محل العصير المشهور هناك ليتناولان عصير المانجو الطازج، ثم يهرعا لاستقلال الترام الأخير أو الأتوبيس أيهما تواجد من ميدان باب اللوق عائدين للمنزل.
أحبت نزهاتها الليلية معه فى شوارع وسط البلد بعد أن تغتسل من صخبها ويقل بها المارة والسيارات، وأحبت متعة الفرجة على المبانى العريقة بها وأحبت استنشاق عبق الشوارع المختلط ببخار المياه فيمنح الجو رائحة خاصة والتى تنفرد بها شوارع وسط المدينة قبل أن يشوبها التلوث كما هو الآن. صارت تحفظ خريطة شوارع وسط الدينة فى هذا المربع عن ظهر قلب: شراع فؤاد ، سليمان باشا، عماد الدين، شارع شريف ، قصر النيل ، عدلى وعبد الخالق ثروت وهى ما زالت صبية لم تتجاوز الثانية عشرة وأخاها كان يكبرها بأربعة أعوام فقط. كانت الدنيا آمنة فى هذا الوقت لدرجة أن يترك الأهل صبى وطفلة يعودان بمفردهما فى هذا الوقت المتأخر وباستخدام المواصلات العامة. صارت قائدة ومرجعا لصديقاتها فى جولاتهن للشراء قبل الأعياد بعد أن كبرت ...تخرج بمفردها معهن. ولما لا فهى تحفظ كظهر يدها أسماء المحلات وأماكنها بشوراع وسط البلد بل وأيضا تعرف أرقام الأتوبيسات التى يستقلونها فى ذهابهن وعودتهن
كان أخاها هو رفيقها وحارسها فى العودة من منزل زميلة لها بعد الدرس فى الثانوية العامة أو بعد انتها ء المسرح حين اشتركت وهى طالبة بالغناء فى مجاميع الكورال فى المسرحيات الغنائية بنائا على ترشيح من اساتذتها أثناء دراستها بأحد المعاهد الفنية. وكانا أيضا يغتنمان الفرصة ليقوما بنفس جولة صباهم القديمة فى وسط المدينة وبنفس التسلسل.
فى السادسة والأربعين دخل المستشفى لجراحة بسيطة وكان من البديهى أن يجرى بعض التحاليل قبل العملية ليفاجأ باصابته بفيروس (سى) ، كيف؟ وهو الرياضى والذى كان يجرى تحليلا سنويا اجباريا لضمان استمرار تعاقده فى السعودية.؟ لا أحد يدرى؟ جاء تدهور الحالة سريعا فى وقت لم يكن نقل فص للكبد معروفا... تذكر حين أصابته أول غيبوبة كبدية!... كيف كان يتصرف تصرفات عشوائية كأن يبحث عن حذائه فوق الدولاب مثلا. وكانت تلك المرة الأولى التى تتعرف فيها على ذلك المسمى ، كانت تظن أن السكر فقط هو الذى يسبب الغيبوبة. شهور لم تتجاوز العام وهو ينتقلون به بين المنزل والمستشفى، من معهد ناصر الى مستشفى بدرواى الى السلام ، مرورا بالمقاولون العرب وانتهاءا بالفرنساوى. وحين أتى الخبير الألمانى الشهير الى مصراصطحبه أخاهما الأكبر فى سيارة الاسعاف ليراه الخبير ويتعجب من ان الكبد يحتاج 20 عاما ليصل الى ما وصل اليه كبده من تليف ...ويقرر بأنه لا أمل فيه فى الشفاء.
تناوب أفراد الأسرة ملازمته لشهور خاصة بعد أن ضعف كثيرا وصار لا يقوى على الحركة بمفرده. ثلاث أيام متتابعة تصرعلى أن تأخذ الوردية الليلية واحساس قوى ينتابها بأنها الأيام الأخيرة. . نفس العلامات التى شاهدتها من قبل من أختها ووالدها ووالدتها ...تلك الليالى الثلاث تركت المشيب يدب سريعا فى شعرها. ....عرفت فيها لأول مرة وشاهدت عن قرب ماذا تعنى الهلاوس البصرية والسمعية. يذهب فى غيبوبة وتظنه نائما ثم يستيقظ ضاحكا: "ماما بتسلم عليكى" وكانت أمنا قد رحلت منذ سنوات كثيرة!" أو يقول "مدى ايدك الناظر عبد السلام يمد يده للسلام عليكى" والناظر هذا كان مدرسا لوالدها فى بلدتهم التى انحدر منها الوالد بريف الدلتا وكان يزورهم كثيرا فى القاهرة وهو صغار ، لكنه أيضا رحل قبل والدهم بكثير. أو يقول: " أريت من يقف فى الركن؟ انه الشيطان " ثم يشير الى ركن فى الجدار تنظر الى حيث يشير وترد عليه قائلة : " لا أرى شيئا" ....يؤكد لها " ازاى أهو وحواليه نور أحمر" ويمد يده عبثا باحثا عن شىء ليقذفه به حتى يفر من أمامه . تسأل نفسها :" أهذه فتنة الموت"! يا رب قه منها!
تذهب لعملها فى الصباح كما اعتادت ثم للمنزل لتغيير ملابسها وتعود مسرعة قبل الغروب وقبل أن تتركه زوجته لتذهب لولديها فى منزلهم و لتتسلم هى ورديتها. ثلاث ليال ظل يتكلم بشكل متواصل لا تفهم جيدا ما يقول لأنه لم يكن يتحدث معها بل مع أناس لا تراهم ولكنهم يتراؤون فقط له..... حتى ضاع صوته تماما. مرة واحدة أفاق وطلب ورقة وقلم ليكتب ما عليه من نقود وما لديه من أمانات وأشياء يرجوها أن تذكر بها ولده الناجح فى الثانوية (رغبات يجب أن يسجلها فى استمارة الالتحاق بالجامعة) ثم يعطيها نظارته الطبية ويقول لها "خليها معاك.. أنا مش محتاجها خلاص" ، وحين قامت لتأخذها أخذ رأسها بين يديه وقبلها وقال لها: "سامحينى على تعبك معايا" جاهدت نفسها كما كانت تفعل أمامه دائما حتى لا تنهار باكية ... ثم يأخذ يديها ويشد عليها كأنه يريدها أن تعاهده وينطق اسم ولديه (رانيا... أحمد) وترد بصدق: "فى عينيه" ...وكان هذا آخر عهده بالكلام مع البشر.
تذكر آخر ساعاته بدقة، تفاصيلها محفورة فى الذاكرة رغم اقترابها من أرذل العمر وما يصاحبه من ضعف فى الذاكرة. كانت تنام على كرسى تلصقه بسريره و تضع يدها فى يده حتى اذا غفوت رغماعنها وأراد شيئا أو تحرك أحست به فهى تخاف أن يحاول النهوض من سريره ليسقط ويؤذى نفسه كما حدث من قبل.... يأتى الطبيب تقف منتبهة تراقبه يحاول العثور على وريد ليعطيه العلاج فلا يستجيب الجسد ...يستأذنها فى نقله للرعاية المركزة ، يسقط قلبها : "أهذه هى البشارة" . ....تطلب أخاها الأكبر فى التليفون والذى يقول لها: " دعيهم يفعلون ما هو فى صالحه ، وعلشان نبقى عملنا كل اللى علينا" . يأخذونه منها ... هو فاقد الوعى وهى مخلوعة القلب عند منتصف الليل ، وينصحها الطبيب بأن تعود للمنزل. "كيف أتركه بمفرده؟ "...."لم يتركنى أبدا بمفردى خاصة بعد طلاقى" ... تهمس لنفسها. تذكر كيف وبخ زوجها حين ضربها وقال له: "مرة ثانية تمد ايدك عليها حاكسرها لك"... كان يحميها دائما ورغما عنها الآن لا تملك أن تحميه... ومن من تحميه من ملك الموت... يا الله كن فى عونه وعونى.. تمشى على أطراف أصابعها والجميع نيام، تدخل الغرفة الجماعية للرعاية تبحث عنه وتجده .. تجلس على الأرض بجواره ممسكة يده تقرأ له من مصحفها الصغير على الضوء الخافت الآتى من الممرسورة الكهف المحببة اليه، ثم تقرر فى شجاعة -تعجبت هى نفسها لها- أن تتلو عليه الشهادة وتلقنه اياها، فقد رأته يغرغر.... لا حول له ولا قوة... يتفصد عرقا وتغرب نظراته.... أفديك أخى.... أحانت حقا لحظة الوداع....يلمحها الطبيب فى رحلاتها المكوكية بين الغرفة فى الدور الخامس تذهب للصلاة والدعاء له ثم تعود للدور الأرضى لتطمئن عليه كالممسوسة تهرع فى رعب الطرقات المخيفة وهى ممزقة الفؤاد ومرورا بممرات شبه مظلمة ترتقى وتهبط السلالم خوفا أن يراها أحد اذ استعملت المصعد فيمنعها من الدخول اليه بلطف ، وحين تتردد يقول لها "أهو زوجك" ...تجيبه : " لا أخى".. فيقول:" دعيه يرحل بهدوء ولا تعذبيه بوجودك الى جواره". تجرى كالمجنونة عائدة الى غرفته الأساسية وكان الفجر على وشك البزوغ فى أطول ليلة عاشتها وأقساها. تطلب أخاها الأصغر فى التليفون والذى ما أن سمع صوتها حتى قال" ايه خلاص؟"، أجابت فى ألم: "تقريبا... تعال أنا مش عارفة أعمل ايه؟" لم تكن تلك المرة الأولى التى تواجه معالم الموت فقد واجهته مع أختيها وأباها وأمها وكل مرة كانت فى مرحلة عمرية مختلفة. ولكن هذه المرة كانت أشدهم ألما. جاء أخاهما الأصغر يلقنه ويمسح وجهه بالمياه ثم يغلق عينيه ويلثمه... وانا لله ..وانا اليه راجعون" ...فقد غادرنا الى الأبد وصعدت الروح الى ربها سامعة طائعة وملبية النداء.... ذهب المختار الذى يكبرها بأربعة أعوام فقط وحده فى أول رحلة له لا ترافقه فيها....هو القريب الى قلبها، الشديد الطيبة والحنان.....يأخذها مع عائلته فى كل نزهة أو سفرة يقومون بها... غنائهما بصحبة أسرته للليلة الكبيرة وصور الاذاعية الغنائية طوال الطريق .يحدثها كل صباح فى عملها ليطمئن عليها ويرجوها أن تمر للغذاء معهم فهى تقيم بمفردها فى المنزل الكبيربعد طلاقها..مروره عليها الشبه يومى فى طريق عودته لمنزله ودائما يحمل اليها شيئا.. فاكهة أو حلوى أو مجلات أو حتى خبزا طازجا . اصطحابه لأولاد أخته المتوفاة مع أولادهم للمدرسة مع أولاده مرتين فى اليوم، هو الملجأ المصرفى اذا أرادت نقود طارئة تقترض منه ثم تسدد ما عليها رغم اعتراضه... رفيق صباها وطفولتها ومحرمها فى احدى رحلات الحج . هذا هو المختاراختير لينسحب من الحياة. اختار أن يكون طيارا ولم يحقق حلمه و يطير الآن محلقا بعيدا ودون أيضا تحقيق الحلم باكمال المسيرة مع أبنائه.
بكته كثيرا، كل صباح تفيق فى سريرها بعد نوم جاء متقطعا وبصعوبة على واقع مغادرته لدنيانا فيعصر الألم فؤادها. حتى ذهبت لأداء العمرة له. وتجزم - ومن الجائز أن لا يصدقها أحد - أنها فى ذلك اليوم رأته مرتين: بالنهار يترجل محرما بثياب بيضاء ساعيا بين الصفا والمروة يواجهها مهرولا فى الطريق المعاكس لها ، ويبتسم لها وحين تتابعه بعينيها يختفى، والمرة الأخرى فى الليل، فى نفس الليلةفى منامها.... تراه مطلا من أحد نوافذ قصر بعيد عالى يكاد يلمس السحاب وهى تقف حائرة لا تعرف كيف تصل اليه!. وتسمع صوت يجاورها لا تدرى من صاحبه يقول لها أنه غاضب منها لأنها كثيرة البكاء عليه، فتجيب: " بس لو أعرف انه ارتاح من الألم ومبسوط هناك .. مش حأعيط أبدا بعد كده" يومىء لها الحبيب المختار برأسه لتفهم أنه قد ارتاح بالفعل. وعلى وعدها له منذ تلك الرؤية لم تعد تبكى. كيف تبكيه وقد صار مختارا! ...فقط حين تشدو فيروز: "شادى ركض يتفرج... خفت وصرت انده له وينك رايح ياشادى.. انده له ما يسمعنى......وما عدت شفته ... ضاع شادى"......." الثلج إجا وراح الثلج...و20 مرة إجا وراح الثلج... وأنا صرت اكبر وشادى بعده صغير عم يلعب عالثلج" .